المسألة الرابعة عشرة : "
مثلا " نصب على التمييز ، كقولك لمن أجاب بجواب غث : ماذا أردت بهذا جوابا ؟ ولمن حمل سلاحا رديئا : كيف تنتفع بهذا سلاحا ؟ أو على الحال كقوله : (
هذه ناقة الله لكم آية ) [ الأعراف : 73 ] .
المسألة الخامسة عشرة : اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عنهم كفرهم واستحقارهم كلام الله بقوله : (
ماذا أراد الله بهذا مثلا ) أجاب عنه بقوله : (
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) ونريد أن نتكلم ههنا في
الهداية والإضلال ليكون هذا الموضع كالأصل الذي يرجع إليه في كل ما يجيء في هذا المعنى من الآيات ، فنتكلم أولا في الإضلال فنقول : إن الهمزة تارة تجيء لنقل الفعل من غير المتعدي إلى المتعدي كقولك : خرج ؛ فإنه غير متعد ، فإذا قلت : أخرج ، فقد جعلته متعديا ، وقد تجيء لنقل الفعل من المتعدي إلى غير المتعدي كقولك : كببته فأكب ، وقد تجيء لمجرد الوجدان . حكي عن
عمرو بن معديكرب أنه قال
لبني سليم : قاتلناكم فما أجبناكم ، وهاجيناكم فما أفحمناكم ، وسألناكم فما أبخلناكم . أي فما وجدناكم جبناء
[ ص: 127 ] ولا مفحمين ولا بخلاء . ويقال : أتيت أرض فلان فأعمرتها ؛ أي وجدتها عامرة ، قال
المخبل :
تمنى حصين أن يسود خزاعة فأمسى حصين قد أذل وأقهرا
أي وجد ذليلا مقهورا ، ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : الهمزة لا تفيد إلا نقل الفعل من غير المتعدي إلى المتعدي ؟ فأما قوله : كببته فأكب ، فلعل المراد كببته فأكب نفسه على وجهه ، فيكون قد ذكر الفعل مع حذف المفعولين ، وهذا ليس بعزيز . وأما قوله ، قاتلناكم فما أجبناكم ، فالمراد ما أثر قتالنا في صيرورتكم جبناء . وما أثر هجاؤنا لكم في صيرورتكم مفحمين ، وكذا القول في البواقي ، وهذا القول الذي قلناه أولى ؛ دفعا للاشتراك . إذا ثبت هذا فنقول قولنا : أضله الله ، لا يمكن حمله إلا على وجهين :
أحدهما : أنه صيره ضالا ، والثاني : أنه وجده ضالا ، أما التقدير الأول وهو أنه صيره ضالا فليس في اللفظ دلالة على أنه تعالى صيره ضالا عن ماذا ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه صيره ضالا عن الدين . والثاني : أنه صيره ضالا عن الجنة ، أما الأول وهو أنه تعالى صيره ضالا عن الدين ، فاعلم أن معنى الإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى ترك الدين وتقبيحه في عينه ، وهذا هو الإضلال الذي أضافه الله تعالى إلى إبليس فقال : (
إنه عدو مضل مبين ) [ القصص : 15 ] ، وقال : (
ولأضلنهم ولأمنينهم ) [ النساء : 119 ] ، (
وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ) [ فصلت : 29 ] ، وقال : (
وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ) [ النمل : 24 ] ، (
وقال الشيطان ) [ إبراهيم : 22 ] ، إلى قوله : (
وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) [ إبراهيم : 22 ] ، وأيضا أضاف الله تعالى هذا الإضلال إلى فرعون فقال : (
وأضل فرعون قومه وما هدى ) [ طه : 79 ] .
واعلم أن الأمة مجمعة على أن الإضلال بهذا المعنى لا يجوز على الله تعالى ؛ لأنه تعالى ما دعا إلى الكفر وما رغب فيه بل نهى عنه وزجر وتوعد بالعقاب عليه ، وإذا كان المعنى الأصلي للإضلال في اللغة ليس إلا هذا ، وهذا المعنى منفي بالإجماع ثبت انعقاد الإجماع على أنه لا يجوز إجراء هذا اللفظ على ظاهره .
وعند هذا افتقر أهل الجبر والقدر إلى التأويل ، أما أهل الجبر فقد حملوه على أنه تعالى خلق الضلال والكفر فيهم وصدهم عن الإيمان وحال بينهم وبينه ، وربما قالوا : هذا هو حقيقة اللفظ في أصل اللغة ؛ لأن الإضلال عبارة عن جعل الشيء ضالا كما أن الإخراج والإدخال عبارة عن جعل الشيء خارجا وداخلا ، وقالت
المعتزلة : هذا التأويل غير جائز لا بحسب الأوضاع اللغوية ولا بحسب الدلائل العقلية .