(
ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) .
قوله تعالى :
[ ص: 89 ] (
ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) .
اعلم أنه تعالى لما حذر في الآية الأولى عن نقض العهود والأيمان على الإطلاق ، حذر في هذه الآية فقال : (
ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم ) . وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الأيمان ، وإلا لزم التكرير الخالي عن الفائدة في موضع واحد ، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها ، فلهذا المعنى قال المفسرون : المراد من هذه الآية
نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقض عهده ؛ لأن هذا الوعيد هو قوله : (
فتزل قدم بعد ثبوتها ) لا يليق بنقض عهد قبله ، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وشرائعه .
وقوله : (
فتزل قدم بعد ثبوتها ) مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية ، ومحنة بعد نعمة ، فإن من
نقض عهد الإسلام فقد سقط عن الدرجات العالية ووقع في مثل هذه الضلالة ، ويدل على هذا قوله تعالى : (
وتذوقوا السوء ) أي العذاب : (
بما صددتم ) أي بصدكم (
عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ) أي ذلك السوء الذي تذوقونه سوء عظيم وعقاب شديد ، ثم أكد هذا التحذير فقال : (
ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا ) يريد عرض الدنيا وإن كان كثيرا ، إلا أن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ، يعني : أنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيرا من خيرات الدنيا ، فلا تلتفتوا إليه ؛ لأن الذي أعده الله تعالى على البقاء على الإسلام خير وأفضل وأكمل مما يجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام إن كنتم تعلمون التفاوت بين خيرات الدنيا وبين خيرات الآخرة ، ثم ذكر الدليل القاطع على أن ما عند الله خير مما يجدونه من طيبات الدنيا فقال : (
ما عندكم ينفد وما عند الله باق ) وفيه بحثان :
البحث الأول : الحس شاهد بأن
خيرات الدنيا منقطعة ، والعقل دل على أن خيرات الآخرة باقية ، والباقي خير من المنقطع ، والدليل عليه أن هذا المنقطع إما أن يقال : إنه كان خيرا عاليا شريفا ، أو كان خيرا دنيا خسيسا ، فإن قلنا : إنه كان خيرا عاليا شريفا فالعلم بأنه سينقطع يجعله منغصا حال حصوله ، وأما حال حصول ذلك الانقطاع فإنها تعظم الحسرة والحزن ، وكون تلك النعمة العالية الشريفة كذلك ينغص فيها ويقلل مرتبتها ، وتفتر الرغبة فيها ، وأما إن قلنا : إن تلك النعمة المنقطعة كانت من الخيرات الخسيسة فهمنا من الظاهر أن ذلك الخير الدائم وجب أن يكون أفضل من ذلك الخير المنقطع ، فثبت بهذا أن قوله تعالى : (
ما عندكم ينفد وما عند الله باق ) برهان قاطع على أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا .
البحث الثاني : أن قوله : (
وما عند الله باق ) يدل على أن
نعيم أهل الجنة باق لا ينقطع . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15658جهم بن صفوان : إنه منقطع ، والآية حجة عليه .
واعلم أن
المؤمن إذا آمن بالله فقد التزم شرائع الإسلام والإيمان ، وحينئذ يجب عليه أمران :
أحدهما : أن يصبر على ذلك الالتزام ، وأن لا يرجع عنه وأن لا ينقضه بعد ثبوته .
والثاني : أن يأتي بكل ما هو من شرائع الإسلام ولوازمه .
إذا عرفت هذا فنقول : إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه ، فقال : (
ولنجزين الذين صبروا ) . أي : على ما التزموه من شرائع الإسلام : (
بأحسن ما كانوا يعملون ) . أي : يجزيهم
[ ص: 90 ] على أحسن أعمالهم ، وذلك لأن المؤمن قد يأتي بالمباحات وبالمندوبات وبالواجبات ، ولا شك أنه على فعل المندوبات والواجبات يثاب ، لا على فعل المباحات ؛ فلهذا قال : (
ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) . ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الثاني ، وهو الإتيان بكل ما كان من شرائع الإسلام فقال : (
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) . وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : لفظة "من" في قوله : (
من عمل صالحا ) تفيد العموم فما الفائدة في ذكر الذكر والأنثى ؟
والجواب : أن هذه الآية للوعد بالخيرات ، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرحمة ؛ إثباتا للتأكيد وإزالة لوهم التخصيص .
السؤال الثاني : هل تدل هذه الآية على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح ؟
والجواب : نعم . لأنه تعالى جعل
الإيمان شرطا في كون العمل الصالح موجبا للثواب ؛ وشرط الشيء مغاير لذلك الشيء .
السؤال الثالث : ظاهر الآية يقتضي أن العمل الصالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان ، فظاهر قوله : (
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) [ الزلزلة : 7 ] يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر ، سواء كان مع الإيمان أو كان مع عدمه .
والجواب : أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان ، أما إفادته لأثر غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العقاب فإنه لا يتوقف على الإيمان .
السؤال الرابع : هذه
الحياة الطيبة تحصل في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة ؟
والجواب : فيه ثلاثة أقوال :
القول الأول : قال القاضي : الأقرب أنها تحصل في الدنيا بدليل أنه تعالى أعقبه بقوله : (
ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) . ولا شبهة في أن المراد منه ما يكون في الآخرة .
ولقائل أن يقول : لا يبعد أن يكون المراد من الحياة الطيبة ما يحصل في الآخرة ، ثم إنه مع ذلك وعدهم الله على أنه إنما يجزيهم على ما هو أحسن أعمالهم ، فهذا لا امتناع فيه .
فإن قيل : بتقدير أن تكون هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في الدنيا فما هي ؟
والجواب : ذكروا فيه وجوها :
قيل : هو الرزق الحلال الطيب ، وقيل : عبادة الله مع أكل الحلال ، وقيل : القناعة ، وقيل : رزق يوم بيوم ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013058كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : "قنعني بما رزقتني" .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013059اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا " .
قال
الواحدي : وقول من يقول : إنه القناعة - حسن مختار ؛ لأنه لا يطيب عيش أحد في الدنيا إلا عيش القانع ، وأما الحريص فإنه يكون أبدا في الكد والعناء .
[ ص: 91 ] واعلم أن
عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه :
الأول : أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى ، وعرف أنه تعالى محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضيا بكل ما قضاه وقدره ، وعلم أن مصلحته في ذلك ، أما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبدا في الحزن والشقاء .
وثانيها : أن المؤمن أبدا يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها وعلى تقدير وقوعها يرضى بها ؛ لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب ، فعند وقوعها لا يستعظمها ؛ بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلا عن تلك المعارف ، فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه .
وثالثها : أن
قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى ، والقلب إذا كان مملوءا من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا ، أما قلب الجاهل فإنه خال عن معرفة الله تعالى فلا جرم يصير مملوءا من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا .
ورابعها : أن المؤمن عارف بأن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة ، فلا يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها ، أما الجاهل فإنه لا يعرف سعادة أخرى تغايرها ، فلا جرم يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها .
وخامسها : أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة التقلب فلولا تغيرها وانقلابها لم تصل من غيره إليه .
واعلم أن ما كان واجب التغير فإنه عند وصوله إليه لا تنقلب حقيقته ولا تتبدل ماهيته ، فعند وصوله إليه يكون أيضا واجب التغير ، فعند ذلك لا يطبع العاقل قلبه عليه ولا يقيم له في قلبه وزنا ، بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلا عن هذه المعارف ، فيطبع قلبه عليها ويعانقها معانقة العاشق لمعشوقه ، فعند فوته وزواله يحترق قلبه ويعظم البلاء عنده ، فهذه وجوه كافية في بيان أن عيش المؤمن العارف أطيب من عيش الكافر ، هذا كله إذا فسرنا الحياة الطيبة بأنها في الدنيا .
والقول الثاني : وهو قول
السدي : إن هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر .
والقول الثالث : وهو قول
الحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير : إن هذه الحياة الطيبة لا تحصل إلا في الآخرة ، والدليل عليه قوله تعالى : (
ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) [الانشقاق : 6] . فبين أن هذا الكدح باق إلى أن يصل إلى ربه وذلك ما قلناه ، وأما بيان أن الحياة الطيبة في الجنة ؛ فلأنها حياة بلا موت وغنى بلا فقر ، وصحة بلا مرض ، وملك بلا زوال ، وسعادة بلا شقاء ، فثبت أن الحياة الطيبة ليست إلا تلك الحياة . ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : (
ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) ، وقد سبق تفسيره ، والله أعلم .