أما الهدى فقد جاء على وجوه :
أحدها : الدلالة والبيان ، قال تعالى : (
أولم يهد لهم كم أهلكنا ) [ السجدة : 26 ] ، وقال : (
فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي ) [ البقرة : 38 ] ، وهذا إنما يصح لو كان الهدى عبارة عن البيان ، وقال : (
إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) [ النجم : 23 ] ، وقال : (
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) [ الإنسان : 3 ] ، أي سواء شكر أو كفر فالهداية قد جاءته في الحالتين ، وقال : (
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) [ فصلت : 17 ] ، وقال : (
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) [ الأنعام : 154 ] ، وهذا لا يقال للمؤمن ، وقال تعالى حكاية عن خصوم
داود - عليه السلام - : (
ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ) [ ص : 22 ] ، أي أرشدنا ، وقال : (
إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ) [ محمد : 25 ] ، وقال : (
أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله ) [ الزمر : 56 ] ، إلى قوله : (
أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين ) [ الزمر : 57 ] ، إلى قوله : (
بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت ) [ الزمر : 59 ] ، أخبر أنه قد هدى الكافر مما جاءه من الآيات ، وقال : (
أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ) [ الأنعام : 157 ] ، وهذه مخاطبة للكافرين .
وثانيها : قالوا في قوله : (
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) [ الشورى : 52 ] ، أي لتدعو ، وقوله : (
ولكل قوم هاد ) [ الرعد : 7 ] ، أي داع يدعوهم إلى ضلال أو هدى .
وثالثها : التوفيق من الله بالألطاف المشروطة بالإيمان ، يؤتيها المؤمنين جزاء على إيمانهم ومعونة عليه وعلى الازدياد من طاعته ، فهذا ثواب لهم ، وبإزائه ضده للكافرين وهو أن يسلبهم ذلك فيكون مع أنه تعالى ما هداهم يكون قد أضلهم ، والدليل على هذا الوجه قوله تعالى : (
والذين اهتدوا زادهم هدى ) [ محمد : 17 ] ، (
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ) [ مريم : 76 ] ، (
والله لا يهدي القوم الظالمين ) [ البقرة : 258 ] ، (
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ) [ إبراهيم : 27 ] ، (
كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين ) [ آل عمران : 86 ] ، فأخبر أنه لا يهديهم وأنهم قد جاءهم البينات ، فهذا الهدى غير البيان لا محالة ، وقال تعالى : (
ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) [ التغابن : 11 ] ، (
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ) [ المجادلة : 22 ] .
ورابعها : الهدى إلى طريق الجنة ، قال تعالى : (
فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما ) [ النساء : 175 ] ، وقال : (
قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) .
[ ص: 135 ] [ المائدة : 16 ] ، وقال : (
والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة ) [ محمد : 5 ] ، والهداية بعد القتل لا تكون إلا إلى الجنة ، وقال تعالى : (
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار ) [ يونس : 9 ] ، وهذا تأويل
الجبائي .
وخامسها : الهدى بمعنى التقديم ، يقال : هدى فلان فلانا ؛ أي قدمه أمامه ، وأصل هدى من هداية الطريق ؛ لأن الدليل يتقدم المدلول .
وتقول العرب : أقبلت هوادي الخيل ؛ أي متقدماتها ، ويقال للعنق : هادي ، وهوادي الخيل : أعناقها لأنها تتقدمها .
وسادسها : يهدي ؛ أي يحكم بأن المؤمن مهتد ، وتسميته بذلك لأن حقيقة قول القائل : هداه : جعله مهتديا ، وهذا اللفظ قد يطلق على الحكم والتسمية ، قال تعالى : (
ما جعل الله من بحيرة ) [ المائدة : 103 ] ، أي ما حكم ولا شرع ، وقال : (
إن الهدى هدى الله ) [ آل عمران : 73 ] ، معناه أن الهدى ما حكم الله بأنه هدى ، وقال : (
من يهد الله فهو المهتدي ) [ الكهف : 17 ] أي من حكم الله عليه بالهدى فهو المستحق لأن يسمى مهتديا ، فهذه هي الوجوه التي ذكرها
المعتزلة ، وقد تكلمنا عليها فيما تقدم في باب الإضلال .
قالت
الجبرية : وههنا وجه آخر وهو أن يكون الهدى بمعنى خلق الهداية والعلم ، قال الله تعالى : (
والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) [ يونس : 25 ] ، قالت
القدرية : هذا غير جائز ؛ لوجوه :
أحدها : أنه لا يصح في اللغة أن يقال لمن حمل غيره على سلوك الطريق كرها وجبرا ، أنه هداه إليه ، وإنما يقال : رده إلى الطريق المستقيم وحمله عليه وجره إليه ، فأما أن يقال : إنه هداه إليه ، فلا .
وثانيها : لو حصل ذلك بخلق الله تعالى لبطل الأمر والنهي والمدح والذم والثواب والعقاب ، فإن قيل : هب أنه خلق الله تعالى إلا أنه كسب العبد . قلنا : هذا الكسب مدفوع من وجهين :
الأول : أن وقوع هذه الحركة إما أن يكون بتخليق الله تعالى أو لا يكون بتخليقه ، فإن كان بتخليقه ، فمتى خلقه الله تعالى استحال من العبد أن يمتنع منه ، ومتى لم يخلقه استحال من العبد الإتيان به ، فحينئذ تتوجه الإشكالات المذكورة . وإن لم يكن بتخليق الله تعالى بل من العبد فهذا هو القول بالاعتزال .
الثاني : أنه لو كان خلقا لله تعالى وكسبا للعبد لم يخل من أحد وجوه ثلاثة ، إما أن يكون الله يخلقه أولا ثم يكتسبه العبد ، أو يكتسبه العبد أولا ثم يخلقه الله تعالى ، أو يقع الأمران معا ، فإن خلقه الله تعالى كان العبد مجبورا على اكتسابه فيعود الإلزام ، وإن اكتسبه العبد أولا فالله مجبور على خلقه ، وإن وقعا معا وجب أن لا يحصل هذا الأمر إلا بعد اتفاقهما ، لكن هذا الاتفاق غير معلوم لنا فوجب أن لا يحصل هذا الاتفاق ، وأيضا فهذا الاتفاق وجب أن لا يحصل إلا باتفاق آخر ؛ لأنه من كسبه وفعله ، وذلك يؤدي إلى ما لا نهاية له من الاتفاق وهو محال . هذا مجموع كلام
المعتزلة .
قالت
الجبرية : إنا قد دللنا بالدلائل العقلية التي لا تقبل الاحتمال والتأويل على أن خالق هذه الأفعال هو الله تعالى ، إما بواسطة أو بغير واسطة ، والوجوه التي تمسكتم بها وجوه نقلية قابلة للاحتمال ، والقاطع لا يعارضه المحتمل ، فوجب المصير إلى ما قلناه ، وبالله التوفيق .