(
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ) .
قوله تعالى : (
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ) .
اعلم أن المراد من هذه الآية حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأنهم كانوا يقولون : إن
محمدا إنما يذكر هذه القصص وهذه الكلمات لأنه يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمها منه . واختلفوا في هذا
البشر الذي نسب المشركون النبي صلى الله عليه وسلم إلى التعلم منه قيل : هو عبد
لبني عامر بن لؤي ، يقال له يعيش ، وكان يقرأ الكتب ، وقيل :
عداس غلام عتبة بن ربيعة ، وقيل : عبد
لبني الحضرمي صاحب كتب ، وكان اسمه
جبرا ، وكانت
قريش تقول : عبد
بني الحضرمي يعلم
nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة ،
nindex.php?page=showalam&ids=10640وخديجة تعلم
محمدا ، وقيل : كان
بمكة نصراني أعجمي اللسان ، اسمه
بلعام ، ويقال له : أبو ميسرة يتكلم بالرومية ، وقيل :
nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان الفارسي ، وبالجملة فلا فائدة في تعديد هذه الأسماء ، والحاصل أن القوم اتهموه بأنه يتعلم هذه الكلمات من غيره ، ثم إنه يظهرها من نفسه ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه .
ثم إنه تعالى أجاب عنه بأن قال : (
لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) .
ومعنى الإلحاد في اللغة : الميل ، يقال : لحد وألحد إذا مال عن القصد ، ومنه يقال للعادل عن الحق ملحد . وقرأ
حمزة والكسائي : " يلحدون " بفتح الياء والحاء ، والباقون : بضم الياء وكسر الحاء ، قال
الواحدي : والأولى ضم الياء ؛ لأنه لغة القرآن ، والدليل عليه قوله : (
ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) [الحج : 25] . والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة ، ومنه يقال : ألحدت له لحدا إذا حفرته في جانب القبر مائلا عن الاستواء ، وقبر ملحد وملحود ، ومنه الملحد ؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها ، لم يمله عن دين إلى دين آخر ، وفسر الإلحاد في هذه الآية بالقولين : قال
الفراء : يميلون من الميل ، وقال
الزجاج : يميلون من الإمالة ، أي لسان الذين يميلون القول إليه أعجمي ، وأما قوله : (
أعجمي ) فقال
أبو الفتح الموصلي : تركيب ع ج م وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء وضد البيان والإيضاح ، ومنه قولهم : رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان ، وعجم الذنب سمي بذلك لاستتاره واختفائه ، والعجماء البهيمة ؛ لأنها لا توضح ما في نفسها ، وسموا صلاتي الظهر والعصر عجماوين ؛ لأن
[ ص: 95 ] القراءة حاصلة فيهما بالسر لا بالجهر ، فأما قوله م : أعجمت الكتاب ، فمعناه أزلت عجمته ، وأفعلت قد يأتي والمراد منه السلب ؛ كقولهم : أشكيت فلانا ، إذا أزلت ما يشكوه ، فهذا هو الأصل في هذه الكلمة ، ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بلسانهم أعجم- وأعجميا . قال
الفراء وأحمد بن يحيى : الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب ، والأعجمي والعجمي الذي أصله من العجم . قال
أبو علي الفارسي : الأعجم الذي لا يفصح ، سواء كان من العرب أو من العجم ، ألا ترى أنهم قالوا : زياد الأعجم ؛ لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنه كان عربيا ، وأما معنى العربي واشتقاقه فقد ذكرناه عند قوله : (
الأعراب أشد كفرا ونفاقا ) [التوبة : 97] . وقال
الفراء والزجاج في هذه الآية : يقال عرب لسانه عرابة وعروبة . هذا تفسير ألفاظ الآية .
وأما تقرير وجه الجواب فاعلم أنه إنما يظهر إذا قلنا : القرآن إنما كان معجزا لما فيه من الفصاحة العائدة إلى اللفظ وكأنه قيل : هب أنه يتعلم المعاني من ذلك الأعجمي ، إلا أن القرآن إنما كان معجزا لما في ألفاظه من الفصاحة ، فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن
محمدا صلى الله عليه وسلم يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح ذلك في المقصود ؛ إذ القرآن إنما كان معجزا لفصاحته ، وما ذكرتموه لا يقدح في ذلك المقصود . ولما ذكر الله تعالى هذا الجواب أردفه بالتهديد والوعيد ، فقال : (
إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ) أما تفسير أصحابنا لهذه الآية فظاهر ، وقال القاضي : أقوى ما قيل في ذلك أنه لا يهديهم إلى طريق الجنة ، ولذلك قال بعده : (
ولهم عذاب أليم ) والمراد أنهم
لما تركوا الإيمان بالله - لا يهديهم الله إلى الجنة ، بل يسوقهم إلى النار ، ثم إنه تعالى بين كونهم كذابين في ذلك القول ، فقال : (
إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المقصود منه أنه تعالى بين في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح في المقصود ، ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصح وهم كذبوا فيه ، والدليل على كونهم كاذبين في ذلك القول - وجوه :
الأول : أنهم لا يؤمنون بآيات الله وهم كافرون ، ومتى كان الأمر كذلك كانوا أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم ، وكلام العدا ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتهم .
والثاني : أن أمر التعلم لا يتأتى في جلسة واحدة ولا يتم في الخفية ، بل التعلم إنما يتم إذا اختلف المعلم إلى المتعلم أزمنة متطاولة ومددا متباعدة ، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر فيما بين الخلق أن
محمدا - عليه السلام - يتعلم العلوم من فلان وفلان .
الثالث : أن
العلوم الموجودة في القرآن كثيرة ، وتعلمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق ، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في التعليم والتحقيق إلى هذا الحد لكان مشارا إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا ، فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان ؟
واعلم أن الطعن في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمثال هذه الكلمات الركيكة يدل على أن الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة باهرة ، فإن الخصوم كانوا عاجزين عن الطعن فيها ، ولأجل غاية عجزهم عدلوا إلى هذه الكلمات الركيكة .
المسألة الثانية : في هذه الآية دلالة قوية على أن
الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش ، والدليل عليه أن كلمة "إنما" للحصر ، والمعنى : أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله
[ ص: 96 ] تعالى ، وإلا من كان كافرا ، وهذا تهديد في النهاية .
فإن قيل : قوله (
لا يؤمنون بآيات الله ) فعل ، وقوله (
وأولئك هم الكاذبون ) اسم ، وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية قبيح ، فما السبب في حصوله ههنا ؟
قلنا : الفعل قد يكون لازما وقد يكون مفارقا ، والدليل عليه قوله تعالى : (
ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ) [يوسف : 35] . ذكره بلفظ الفعل ؛ تنبيها على أن ذلك السجن لا يدوم . وقال
فرعون لموسى - عليه السلام - : (
لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ) [الشعراء : 29] . ذكره بصيغة الاسم ؛ تنبيها على الدوام ، وقال أصحابنا : إنه تعالى قال : (
وعصى آدم ربه فغوى ) [طه : 121] . ولا يجوز أن يقال : إن
آدم عاص وغاو ؛ لأن صيغة الفعل لا تفيد الدوام ، وصيغة الاسم تفيده .
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : قوله (
إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله ) ذكر ذلك تنبيها على أن من أقدم على الكذب فكأنه دخل في الكفر ، ثم قال : (
وأولئك هم الكاذبون ) تنبيها على أن صفة الكذب فيهم ثابتة راسخة دائمة ؛ وهذا كما تقول : كذبت وأنت كاذب ، فيكون قولك " وأنت كاذب" زيادة في الوصف بالكذب ، ومعناه : أن عادتك أن تكون كاذبا .
المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أن الكاذب المفتري الذي لا يؤمن بآيات الله ، والأمر كذلك ؛ لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهية ونبوة الأنبياء ، وهذا الإنكار مشتمل على الكذب والافتراء . وروي
أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : هل يكذب المؤمن ؟ قال : "لا" ثم قرأ هذه الآية ، والله أعلم .