(
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) .
قوله تعالى : (
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال
الواحدي : هذه الآية فيها ثلاثة أقوال :
[ ص: 113 ] القول الأول : وهو الذي عليه العامة
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013069أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حمزة وقد مثلوا به قال : "والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك" فنزل جبريل - عليه السلام - بخواتيم سورة النحل فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عما أراد .
وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - في رواية
عطاء ،
nindex.php?page=showalam&ids=34وأبي بن كعب ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي . وعلى هذا قالوا : إن
سورة النحل كلها مكية إلا هذه الآيات الثلاث .
والقول الثاني : أن هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد ، حين كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدءوا بالقتال وهو قوله تعالى : (
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) [البقرة : 190] . وفي هذه الآية أمر الله بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا .
والقول الثالث : أن المقصود من هذه الآية
نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد nindex.php?page=showalam&ids=12354والنخعي وابن سيرين . قال
ابن سيرين : إن أخذ منك رجل شيئا فخذ منه مثله ، وأقول : إن حمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله تعالى ؛ وذلك يطرق الطعن إليه وهو في غاية البعد ، بل الأصوب عندي أن يقال : المراد أنه تعالى أمر
محمدا صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة : وهي الحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالطريق الأحسن ، ثم إن تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم ، وبالإعراض عنه والحكم عليه بالكفر والضلالة ، وذلك مما يشوش القلوب ويوحش الصدور ، ويحمل أكثر المستمعين على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة ، وبالضرب ثانيا ، وبالشتم ثالثا ، ثم إن ذلك المحق إذا شاهد تلك السفاهات ، وسمع تلك المشاغبات لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب ، فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة ، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه .
فإن قيل : فهل تقدحون فيما روي
أنه - عليه السلام - ترك العزم على المثلة ، وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية ؟
قلنا : لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية ، لأنا نقول : تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية ، فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية ، إنما الذي ينازع فيه أنه لا يجوز قصر هذه الآية على هذه الواقعة ؛ لأن ذلك يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى .
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتب ذلك على أربع مراتب :
المرتبة الأولى : قوله : (
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) يعني :
إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه ، فإن استيفاء الزيادة ظلم ، والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته ، وفي قوله : (
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) دليل على أن الأولى له أن لا يفعل ، كما أنك إذا قلت للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح ، كان معناه : أن الأولى بك أن لا تأكله ، فذكر تعالى بطريق الرمز والتعريض على أن الأولى تركه .
والمرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التصريح ، وهو قوله : (
ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ) . وهذا تصريح بأن الأولى ترك ذلك الانتقام ؛ لأن
الرحمة أفضل من القسوة ، والإنفاع أفضل من الإيلام .
[ ص: 114 ] المرتبة الثالثة : وهو ورود الأمر بالجزم بالترك ، وهو قوله : (
واصبر ) ؛ لأنه في المرتبة الثانية ذكر أن الترك خير وأولى ، وفي هذه المرتبة الثالثة صرح بالأمر بالصبر ، ولما كان الصبر في هذا المقام شاقا شديدا ذكر بعده ما يفيد سهولته ، فقال : (
وما صبرك إلا بالله ) أي : بتوفيقه ومعونته ، وهذا هو السبب الكلي الأصلي المفيد في حصول الصبر ، وفي حصول جميع أنواع الطاعات . ولما ذكر هذا السبب الكلي الأصلي ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب ، فقال : (
ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ) وذلك لأن إقدام الإنسان على الانتقام ، وعلى إنزال الضرر بالغير لا يكون إلا عند هيجان الغضب ، وشدة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين :
أحدهما : فوات نفع كان حاصلا في الماضي ، وإليه الإشارة بقوله : (
ولا تحزن عليهم ) قيل : معناه : ولا تحزن على قتلى
أحد ، ومعناه : لا تحزن بسبب فوت أولئك الأصدقاء . ويرجع حاصله إلى فوت النفع .
والسبب الثاني : لشدة الغضب توقع ضرر في المستقبل ، وإليه الإشارة بقوله : (
ولا تك في ضيق مما يمكرون ) ، ومن وقف على هذه اللطائف عرف أنه لا يمكن كلام أدخل في الحسن والضبط من هذا الكلام .