(
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا )
قوله تعالى : (
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ) .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى :
قوله : ( أمرنا مترفيها ) في تفسير هذا الأمر قولان :
القول الأول : أن المراد منه الأمر بالفعل ، ثم إن لفظ الآية لا يدل على أنه تعالى بماذا يأمرهم فقال الأكثرون : معناه أنه تعالى يأمرهم بالطاعات والخيرات ، ثم إنهم يخالفون ذلك الأمر ويفسقون وقال صاحب " الكشاف " : ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون ، إلا أن هذا مجاز ومعناه أنه فتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا ، قال : والدليل على أن ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه ، أن المأمور به إنما حذف لأن قوله (
ففسقوا ) يدل عليه يقال : أمرته فقام ، وأمرته فقرأ لا يفهم منه ، إلا أن
[ ص: 140 ] المأمور به قيام أو قراءة فكذا ههنا لما قال : (
أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ) وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني أو فخالفني ؛ فإن هذا لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة ; لأنا نقول : إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له ، فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به ، كما أن كونها معصية ينافي كونها مأمورا بها ، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق ، وهذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصر صاحب " الكشاف " على قوله مع ظهور فساده ، فثبت أن الحق ما ذكره الكل وهو أن المعنى : أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عنادا وأقدموا على الفسق .
القول الثاني : في تفسير قوله : ( أمرنا مترفيها ) أي : أكثرنا فساقها . قال
الواحدي : العرب تقول أمر القوم إذا كثروا . وأمرهم الله إذا كثرهم ، وآمرهم أيضا بالمد ، روى
الجرمي عن
أبي زيد أمر الله القوم وآمرهم ، أي : كثرهم . واحتج
أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013077خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة " والمعنى مهرة قد كثر نسلها يقولون : أمر الله المهرة أي : كثر ولدها ، ومن الناس من أنكر أن يكون " أمر " بمعنى كثر وقالوا أمر القوم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد أي : كثرهم ، وحملوا قوله عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013078مهرة مأمورة " على أن المراد كونها مأمورة بتكثير النسل على سبيل الاستعارة . وأما المترف : فمعناه في اللغة المتنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش (
ففسقوا فيها ) أي : خرجوا عما أمرهم الله : (
فحق عليها القول ) يريد : استوجبت العذاب ، وهذا كالتفسير لقوله تعالى : (
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) [ الإسراء : 15 ] وقوله : (
وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا ) [ القصص : 59 ] وقوله : (
ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ) [ الأنعام : 131 ] فلما حكم تعالى في هذه الآيات أنه تعالى
لا يهلك قرية حتى يخالفوا أمر الله ، فلا جرم ذكر ههنا أنه يأمرهم فإذا خالفوا الأمر ، فعند ذلك استوجبوا الإهلاك المعبر عنه بقوله : (
فحق عليها القول ) وقوله : (
فدمرناها تدميرا ) أي : أهلكناها إهلاك الاستئصال . والدمار هلاك على سبيل الاستئصال .