(
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا )
قوله تعالى : (
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال
القفال رحمه الله : هذه الآية داخلة في معنى قوله : (
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) ومعناه : أن الكمال في الدنيا قسمان : فمنهم من يريد بالذي يعمله الدنيا ومنافعها والرياسة فيها ، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم ؛ إشفاقا من زوال الرياسة عنه ، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤما لأنه في قبضة الله تعالى فيؤتيه الله في الدنيا منها قدرا لا كما يشاء ذلك الإنسان ، بل كما يشاء الله إلا أن عاقبته جهنم يدخلها فيصلاها بحرها مذموما ملوما مدحورا منفيا
[ ص: 143 ] مطرودا من رحمة الله تعالى . وفي لفظ هذه الآية فوائد .
الفائدة الأولى : أن
العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة ، فقوله : (
ثم جعلنا له جهنم يصلاها ) إشارة إلى المضرة العظيمة ، وقوله : (
مذموما ) إشارة إلى الإهانة والذم ، وقوله : (
مدحورا ) إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة الله ، وهي تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص .
الفائدة الثانية : أن من الجهال من إذا ساعدته الدنيا اغتر بها وظن أن ذلك لأجل كرامته على الله تعالى ، وأنه تعالى بين أن
مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى ، لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها هي المصير إلى عذاب الله وإهانته ، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السوء في لزومها له وكونها سائقة له إلى أشد العذاب .
الفائدة الثالثة : قوله تعالى : (
لمن نريد ) يدل على أنه
لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد ، بل كثير من الكفار والضلال يعرضون عن الدين في طلب الدنيا ، ثم يبقون محرومين عن الدنيا وعن الدين ، وهذا أيضا فيه زجر عظيم لهؤلاء الكفار الضلال الذين يتركون الدين لطلب الدنيا ، فإنه ربما فاتتهم الدنيا فهم الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
وأما القسم الثاني : وهو قوله تعالى : (
ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ) فشرط تعالى فيه شروطا ثلاثة :
الشرط الأول : أن يريد بعمله الآخرة أي : ثواب الآخرة ، فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة وهذه النية لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى : (
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) [ النجم : 37 ] ولقوله عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011565إنما الأعمال بالنيات " ولأن
المقصود من الأعمال استنارة القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته ، وهذا لا يحصل إلا إن نوى بعمله عبودية الله تعالى وطلب طاعته .
والشرط الثاني : قوله : (
وسعى لها سعيها ) وذلك هو أن يكون
العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة من الأعمال التي بها ينال ثواب الآخرة ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القرب والطاعات ، وكثير من الناس يتقربون إلى الله تعالى بأعمال باطلة ، فإن
الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان ، ولهم فيه تأويلان :
التأويل الأول : يقولون : إله العالم أجل وأعظم من أن يقدر الواحد منا على إظهار عبوديته وخدمته فليس لنا هذا القدر والدرجة ولكن غاية قدرنا أن نشتغل بعبودية بعض المقربين من عباد الله تعالى ، مثل أن نشتغل بعبادة كوكب أو عبادة ملك من الملائكة ، ثم إن الملك والكوكب يشتغلون بعبادة الله تعالى ، فهؤلاء يتقربون إلى الله تعالى بهذا الطريق ، إلا أنه لما كان فاسدا في نفسه لا جرم لم يحصل الانتفاع به .
والتأويل الثاني لهم : أنهم قالوا : نحن اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء ، ومرادنا من عبادتها أن تصير أولئك الأنبياء والأولياء شفعاء لنا عند الله تعالى . وهذا الطريق أيضا فاسد ، وأيضا نقل عن
الهند : أنهم يتقربون إلى الله تعالى بقتل أنفسهم تارة وبإحراق أنفسهم أخرى ويبالغون في تعظيم الله تعالى ،
[ ص: 144 ] إلا أنه لما كان الطريق فاسدا لا جرم لم ينتفع به ، وكذلك القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقربون إلى الله تعالى بمذاهبهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة وأعمالهم المنحرفة عن قانون الصدق والصواب .
والشرط الثالث : قوله تعالى : (
وهو مؤمن ) وهذا الشرط معتبر ، لأن
الشرط في كون أعمال البر موجبة للثواب تقدم الإيمان ، فإذا لم يوجد الشرط لم يحصل المشروط ، ثم إنه تعالى أخبر أن عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكورا والعمل مبرورا .
واعلم أن الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة : اعتقاد كونه محسنا في تلك الأعمال ، والثناء عليه بالقول ، والإتيان بأفعال تدل على كونه معظما عند ذلك الشاكر ، والله تعالى يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة ، فإنه تعالى عالم بكونهم محسنين في تلك الأعمال ، وأنه تعالى يثني عليهم بكلامه وأنه تعالى يعاملهم بمعاملات دالة على كونهم معظمين عند الله تعالى ، وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلا كانوا مشكورين على طاعاتهم من قبل الله تعالى ، ورأيت في كتب
المعتزلة أن
nindex.php?page=showalam&ids=11897جعفر بن حرب حضر عنده واحد من أهل السنة وقال : الدليل على أن
الإيمان حصل بخلق الله تعالى أنا نشكر الله على الإيمان ، ولو لم يكن الإيمان حاصلا بإيجاده لامتنع أن نشكره عليه ، لأن
مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيح ، قال الله تعالى : (
ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ) [ آل عمران : 188 ] فعجز الحاضرون عن الجواب ، فدخل
ثمامة بن الأشرس وقال : إنما نمدح الله تعالى ونشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل ، وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل ، والله تعالى يشكرنا على فعل الإيمان ، قال تعالى : (
فأولئك كان سعيهم مشكورا ) قال فضحك
nindex.php?page=showalam&ids=11897جعفر بن حرب وقال : صعب المسألة فسهلت .
واعلم أن قولنا : " مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل " كلام واضح ، لأنه تعالى هو الذي أعطى الموجب التام لحصول الإيمان فكان هو المستحق للشكر ، ولما حصل الإيمان للعبد وكان
الإيمان موجبا للسعادة التامة صار العبد أيضا مشكورا ولا منافاة بين الأمرين .