(
وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا )
[ ص: 148 ]
قوله تعالى : (
وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا ) .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى أمر بعبادة نفسه ، ثم أتبعه بالأمر ببر الوالدين ، وبيان
المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى وبين الأمر ببر الوالدين من وجوه :
الوجه الأول : أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده ، والسبب الظاهري هو الأبوان ، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي ، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري .
الوجه الثاني : أن الموجود إما قديم وإما محدث ، ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية ، ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله عليه السلام : "
التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله " وأحق الخلق بصرف الشفقة إليه هو الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان فقوله : (
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) إشارة إلى التعظيم لأمر الله ، وقوله : (
وبالوالدين إحسانا ) إشارة إلى الشفقة على خلق الله .
الوجه الثالث : أن الاشتغال بشكر المنعم واجب ، ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى . وقد يكون أحد من المخلوقين منعما عليك ، وشكره أيضا واجب لقوله عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013080من لم يشكر الناس لم يشكر الله "
وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل ما للوالدين ، وتقريره من وجوه :
أحدها : أن الولد قطعة من الوالدين ، قال عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012314فاطمة بضعة مني " .
وثانيها : أن شفقة الأبوين على الولد عظيمة وجدهما في إيصال الخير إلى الولد كالأمر الطبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه كالأمر الطبيعي ، ومتى كانت الدواعي إلى إيصال الخير متوفرة ، والصوارف عنه زائلة لا جرم كثر إيصال الخير ، فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة أكثر من كل نعمة تصل من إنسان إلى إنسان .
وثالثها : أن الإنسان حال ما يكون في غاية الضعف ونهاية العجز يكون في إنعام الأبوين فأصناف نعمهما في ذلك الوقت واصلة إليه ، وأصناف رحمة ذلك الولد واصلة إلى الوالدين في ذلك الوقت ، ومن المعلوم أن الإنعام إذا كان واقعا على هذا الوجه كان موقعه عظيما .
ورابعها : أن إيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه ، وقد يمتزج بهذا الغرض سائر الأغراض ، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فقط . فكان الإنعام فيه أتم وأكمل ، فثبت أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد ، فبدأ الله تعالى بشكر نعمة الخالق وهو قوله : (
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله : (
وبالوالدين إحسانا ) والسبب فيه ما بينا أن
أعظم النعم بعد إنعام الإله الخالق نعمة الوالدين .
فإن قيل : الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لنفسيهما فلزم منه دخول الولد في الوجود وحصوله في عالم الآفات والمخافات ، فأي إنعام للأبوين على الولد ؟ حكي أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة ، وقيل
nindex.php?page=showalam&ids=11880لأبي العلاء المعري : ماذا نكتب على قبرك ؟ قال اكتبوا عليه :
[ ص: 149 ] هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد
وقال في ترك التزوج والولد :
وتركت أولادي وهم في نعمة الـ ـعدم التي سبقت نعيم العاجل
ولو انهم ولدوا لعانوا شدة ترمي بهم في موبقات الآجل
وقيل
للإسكندر : أستاذك أعظم منة عليك أم والدك ؟ فقال : الأستاذ أعظم منة ، لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي , أرتعني في نور العلم ، وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه ، وأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد . ومن الكلمات المشهورة المأثورة : خير الآباء من علمك .
والجواب : هب أنهما في أول الأمر طلبا لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات ، وفي دفع الآفات من أول دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات ، فسقطت هذه الشبهات . والله أعلم .
المسألة الثانية : قوله : (
وبالوالدين إحسانا ) قال أهل اللغة : تقدير الآية : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا الله وأن تحسنوا ، أو يقال : وقضى ألا تعبدوا إلا إياه وأحسنوا بالوالدين إحسانا . قال صاحب " الكشاف " : ولا يجوز أن تتعلق الباء في (
وبالوالدين ) بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ثم لم يذكر دليلا على أن المصدر لا يجوز أن تتقدم عليه صلته . وقال
الواحدي في " البسيط " : الباء في (
وبالوالدين ) من صلة الإحسان وقدمت عليه كما تقول بزيد فامرر ، وهذا المثال الذي ذكره
الواحدي غير مطابق ، لأن المطلوب تقديم صلة المصدر عليه ، والمثال المذكور ليس كذلك .
المسألة الثالثة : قال
القفال : لفظ الإحسان قد يوصل بحرف الباء تارة ، وبحرف " إلى " أخرى ، وكذلك الإساءة ، يقال : أحسنت به وإليه . وأسأت به وإليه . قال الله تعالى : (
وقد أحسن بي ) [ يوسف : 100 ] وقال القائل :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
وأقول لفظ الآية مشتمل على قيود كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في
الإحسان إلى الوالدين :
أحدها : أنه تعالى قال في الآية المتقدمة : (
ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) [ الإسراء : 19 ] ثم إنه تعالى أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة فذكر من جملتها البر بالوالدين ، وذلك يدل على أن هذه الطاعة من أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة .
وثانيها : أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى ، وثلث بالبر بالوالدين وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة .
وثالثها : أنه تعالى لم يقل : وإحسانا بالوالدين ، بل قال : (
وبالوالدين إحسانا ) فتقديم ذكرهما يدل على شدة الاهتمام .
ورابعها : أنه قال : (
إحسانا ) بلفظ التنكير , والتنكير يدل على التعظيم ، والمعنى : وقضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا عظيما كاملا ، وذلك لأنه لما كان إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ، ثم على جميع التقديرات فلا تحصل المكافأة ، لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء ، وفي الأمثال المشهورة أن البادي بالبر لا يكافأ .
[ ص: 150 ]