[ ص: 156 ]
(
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا )
قوله تعالى : (
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ) .
اعلم أنه تعالى لما أمره بالإنفاق في الآية المتقدمة علمه في هذه الآية
أدب الإنفاق ، واعلم أنه تعالى شرح
وصف عباده المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان فقال : (
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) [ الفرقان : 67 ] فههنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال : (
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) أي : لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات ، والمعنى : لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط : (
ولا تبسطها كل البسط ) أي : ولا تتوسع في الإنفاق توسعا مفرطا بحيث لا يبقى في يدك شيء . وحاصل الكلام : أن الحكماء ذكروا في كتب " الأخلاق " أن لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان ، فالبخل إفراط في الإمساك ، والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان ، والخلق الفاضل هو العدل والوسط كما قال تعالى : (
وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) [ البقرة : 143 ] .
ثم قال تعالى : (
فتقعد ملوما محسورا ) أما تفسير ( تقعد ) ، فقد سبق في الآية المتقدمة . وأما كونه ملوما فلأنه يلوم نفسه . وأصحابه أيضا يلومونه على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة ، وأما كونه محسورا فقال
الفراء : تقول العرب للبعير : هو محسور إذا انقطع سيره وحسرت الدابة إذا سيرها حتى ينقطع سيرها ، ومنه قوله تعالى : (
ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ) [ الملك : 4 ] وجمع الحسير حسرى مثل قتلى وصرعى ، وقال
القفال : المقصود تشبيه حال من أنفق كل ماله ونفقاته بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته ، لأن ذلك المقدار من المال كأنه مطية يحمل الإنسان ويبلغه إلى آخر الشهر أو السنة ، كما أن ذلك البعير يحمله ويبلغه إلى آخر المنزل فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطريق عاجزا متحيرا ، فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدة شهر بقي في وسط ذلك الشهر عاجزا متحيرا ، ومن فعل هذا لحقه اللوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره وترك الحزم في مهمات معاشه .
ثم قال تعالى : (
إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) والمقصود أنه عرف رسوله - صلى الله عليه وسلم - كونه ربا . والرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض . والقدر في اللغة التضييق ، ومنه قوله تعالى : (
ومن قدر عليه رزقه ) [ الطلاق : 7 ] وقوله تعالى : (
وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) [ الفجر : 16 ] أي : ضيق وإنما وسع على البعض لأن ذلك هو الصلاح لهم قال تعالى : (
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء ) [ الشورى : 27 ] .
ثم قال تعالى : (
إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ) يعني أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا
[ ص: 157 ] يعطيه إلا ذلك القدر ،
فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل ، بل لأجل رعاية المصالح .