ثم قال : (
وكفى بربك وكيلا ) وفيه بحثان :
البحث الأول : أنه تعالى لما مكن إبليس من أن يأتي بأقصى ما يقدر عليه في باب الوسوسة ، وكان ذلك سببا لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان ، قال : (
وكفى بربك وكيلا ) ومعناه أن الشيطان وإن كان قادرا فالله تعالى أقدر منه وأرحم بعباده من الكل فهو تعالى يدفع عنه كيد الشيطان ويعصمه من إضلاله وإغوائه .
البحث الثاني : هذه الآية تدل على أن
المعصوم من عصمه الله تعالى وأن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلالة ، لأنه لو كان الإقدام على الحق والإحجام عن الباطل إنما يحصل للإنسان من نفسه لوجب أن يقال : وكفى الإنسان نفسه في
الاحتراز عن الشيطان ، فلما لم يقل ذلك بل قال : (
وكفى بربك ) علمنا أن الكل من الله ، ولهذا قال المحققون : لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله . بقي في الآية سؤالان :
السؤال الأول : أن إبليس هل كان عالما بأن الذي تكلم معه بقوله : (
واستفزز من استطعت منهم ) هو إله العالم أو لم يعلم ذلك ؟ فإن علم ذلك ثم إنه تعالى قال : (
فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ) فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعا له من المعصية مع أنه سمعه من الله تعالى من غير واسطة ؟ وإن لم يعلم أن هذا القائل هو إله العالم ، فكيف قال : (
أرأيتك هذا الذي كرمت علي ) .
والجواب : لعله كان شاكا في الكل أو كان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن .
والسؤال الثاني : ما
الحكمة في أنه تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة ؟ والحكيم إذا أراد أمرا وعلم أن شيئا من الأشياء يمنع من حصوله فإنه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع ؟ .
والجواب : أما مذهبنا فظاهر في هذا الباب ، وأما
المعتزلة فلهم قولان : قال
الجبائي : علم الله تعالى أن الذين كفروا عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد إبليس ، وإذا كان كذلك لم يكن في وجوده
[ ص: 9 ] مزيد مفسدة ، وقال
أبو هاشم : لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة ، إلا أنه تعالى أبقاه تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثواب ، وهذان الوجهان قد ذكرناهما في سورة الأعراف والحجر ، وبالغنا في الكشف عنهما ، والله أعلم .