(
ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا )
قوله تعالى : (
ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا )
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته ، وقد ذكرنا أن المقصود الأعظم في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد ، فإذا امتد الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر
دلائل التوحيد ، والمذكور ههنا الوجوه المستنبطة من
الإنعامات في أحوال ركوب البحر .
فالنوع الأول :
كيفية حركة الفلك على وجه البحر وهو قوله : (
ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر ) والإزجاء سوق الشيء حالا بعد حال ، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله : (
ببضاعة مزجاة ) [ يوسف : 88 ] والمعنى : ربكم الذي يسير الفلك على وجه البحر لتبتغوا من فضله في طلب التجارة إنه كان بكم رحيما ، والخطاب في قوله : (
ربكم ) وفي قوله : (
إنه كان بكم ) عام في حق الكل ، والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها .
والنوع الثاني : قوله : (
وإذا مسكم الضر في البحر ) والمراد من الضر ، الخوف الشديد كخوف الغرق : (
ضل من تدعون إلا إياه ) والمراد أن الإنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والشمس والقمر والملك والفلك ، وإنما يتضرع إلى الله تعالى ، فلما نجاكم من الغرق والبحر وأخرجكم إلى البر أعرضتم عن الإيمان والإخلاص (
وكان الإنسان كفورا ) لنعم الله بسبب أن
عند الشدة يتمسك بفضله ورحمته ، وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره .
والنوع الثالث : قوله : (
أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر ) قال
الليث : الخسف والخسوف هو دخول الشيء في الشيء . يقال : عين خاسفة وهي التي غابت حدقتها في الرأس ، وعين من الماء خاسفة أي غائرة الماء ، وخسفت الشمس أي احتجبت وكأنها وقعت تحت حجاب أو دخلت في جحر . فقوله :
[ ص: 10 ] (
أن يخسف بكم جانب البر ) أي يغيبكم في جانب البر وهو الأرض ، وإنما قال (
جانب البر ) لأنه ذكر البحر في الآية الأولى فهو جانب ، والبر جانب ، أخبر الله تعالى أنه كما قدر على أن يغيبهم في الماء فهو قادر أيضا على أن يغيبهم في الأرض ، فالغرق تغييب تحت الماء كما أن الخسف تغييب تحت التراب ، وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم كانوا خائفين من هول البحر ، فلما نجاهم منه آمنوا ، فقال : هب أنكم نجوتم من هول البحر فكيف أمنتم من هول البر ؟ فإنه تعالى قادر على أن يسلط عليكم آفات البر من جانب التحت أو من جانب الفوق ، أما من جانب التحت فبالخسف . وأما من جانب الفوق فبإمطار الحجارة عليهم ، وهو المراد من قوله : (
أو يرسل عليكم حاصبا ) فكما لا يتضرعون إلا إلى الله تعالى عند ركوب البحر ، فكذلك يجب أن لا يتضرعوا إلا إليه في كل الأحوال . ومعنى الحصب في اللغة : الرمي ، يقال : حصبت أحصب حصبا إذا رميت والحصب المرمي ، ومنه قوله تعالى : (
حصب جهنم ) أي يلقون فيها ، ومعنى قوله : (
حاصبا ) أي عذابا يحصبهم ، أي يرميهم بحجارة ، ويقال للريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب ، والسحاب الذي يرمي بالثلج والبرد يسمى حاصبا لأنه يرمي بهما رميا ، وقال
الزجاج : الحاصب : التراب الذي فيه حصباء ، والحاصب على هذا ذو الحصباء مثل اللابن والتامر وقوله : (
ثم لا تجدوا لكم وكيلا ) يعني لا تجدوا ناصرا ينصركم ويصونكم من عذاب الله ، ثم قال : (
أم أمنتم أن يعيدكم فيه ) أي في البحر تارة أخرى وقوله : (
فيرسل عليكم قاصفا من الريح ) القاصف الكاسر يقال : قصف الشيء يقصفه قصفا إذا كسره بشدة ، والقاصف من الريح التي تكسر الشجر ، وأراد ههنا ريحا شديدة تقصف الفلك وتغرقهم وقوله : (
فيغرقكم بما كفرتم ) أي بسبب كفركم (
ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ) قال
الزجاج : أي لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم بأن يصرفه عنكم ، وتبيع بمعنى تابع .
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ خمسة : وهي قوله : ( أن نخسف ) ( أو نرسل ) ( أو نعيدكم ) ( فنرسل ) ( فنغرقكم ) قرأ
ابن كثير وأبو عمرو جميع هذه الخمسة بالنون ، والباقون بالياء ، فمن قرأ بالياء فلأن ما قبله على الواحد الغائب وهو قوله : (
إلا إياه فلما نجاكم ) ( الإسراء : 67 ) ومن قرأ بالنون فلأن هذا البحر من الكلام قد ينقطع بعضه من بعض وهو سهل لأن المعنى واحد ، ألا ترى أنه قد جاء (
وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ) [ الإسراء : 2 ] فانتقل من الجمع إلى الإفراد وكذلك ههنا يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب ، والمعنى واحد والكل جائز والله أعلم .