(
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا )
قوله تعالى : (
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا )
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا ذكر
أحوال درجاته في الآخرة في هذه الآية وفيها مسائل :
المسألة الأولى : قرئ يدعوا بالياء والنون ويدعى كل أناس على البناء للمفعول ، وقرأ
الحسن يدعو كل أناس ، قال
الفراء وأهل العربية لا يعرفون وجها لهذه القراءة المنقولة عن
الحسن ولعله قرأ يدعى بفتحة ممزوجة بالضم فظن الراوي أنه قرأ يدعو .
المسألة الثانية : قوله يوم ندعوا نصب بإضمار اذكر ولا يجوز أن يقال العامل فيه قوله وفضلناهم لأنه فعل ماض ويمكن أن يجاب عنه فيقال : المراد ونفضلهم بما نعطيهم من الكرامة والثواب .
المسألة الثالثة : قوله : (
بإمامهم ) الإمام في اللغة كل من ائتم به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبي إمام أمته ، والخليفة إمام رعيته ، والقرآن إمام المسلمين وإمام القوم هو الذي يقتدى به في الصلاة وذكروا في
تفسير الإمام ههنا أقوال :
القول الأول : إمامهم نبيهم روي ذلك مرفوعا عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه عن
[ ص: 15 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون المعنى أنه
ينادى يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم ثم ينادى يا أتباع
فرعون يا أتباع
نمرود يا أتباع فلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر ، وعلى هذا القول فالباء في قوله بإمامهم فيه وجهان :
الأول : أن يكون التقدير يدعوا كل أناس بإمامهم تبعا وشيعة لأمامهم كما تقول أدعوك باسمك .
والثاني : أن يتعلق بمحذوف وذلك المحذوف في موضع الحال كأنه قيل يدعوا كل أناس مختلطين بإمامهم أي يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده .
والقول الثاني : وهو قول
الضحاك وابن زيد : بإمامهم أي بكتابهم الذي أنزل عليهم وعلى هذا التقدير ينادى في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل .
والقول الثالث : قال
الحسن بكتابهم الذي فيه أعمالهم وهو قول
الربيع nindex.php?page=showalam&ids=11873وأبي العالية ، والدليل على أن هذا الكتاب يسمى إماما قوله تعالى : (
وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) ( يس : 12 )
فسمى الله تعالى هذا الكتاب إماما ، وتقدير الباء على هذا القول بمعنى مع ، أي ندعوا كل أناس ومعهم كتابهم كقولك ادفعه إليه برمته أي ومعه رمته .
القول الرابع : قال صاحب "الكشاف" ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع أم ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق
عيسى وإظهار شرف
الحسن والحسين وأن لا يفتضح أولاد الزنا ثم قال صاحب "الكشاف" : وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بيان حكمته !
والقول الخامس : أقول في اللفظ احتمال آخر وهو أن أنواع الأخلاق الفاضلة والفاسدة كثيرة والمستولي على كل إنسان نوع من تلك الأخلاق فمنهم من يكون الغالب عليه الغضب ومنهم من يكون الغالب عليه شهوة النقود أو شهوة الضياع ومنهم من يكون الغالب عليه الحقد والحسد وفي جانب الأخلاق الفاضلة منهم من يكون الغالب عليه العفة أو الشجاعة أو الكرم أو طلب العلم والزهد إذا عرفت هذا فنقول : الداعي إلى الأفعال الظاهرة من تلك الأخلاق الباطنة فذلك الخلق الباطن كالإمام له والملك المطاع والرئيس المتبوع فيوم القيامة إنما يظهر الثواب والعقاب بناء على الأفعال الناشئة من تلك الأخلاق فهذا هو المراد من قوله : (
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم ) فهذا الاحتمال خطر بالبال والله أعلم بمراده ، ثم قال تعالى : (
فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا ) قال صاحب "الكشاف" إنما قال أولئك لأن من أوتي في معنى الجمع ، والفتيل القشرة التي في شق النواة وسمي بهذا الاسم لأنه إذا أراد الإنسان استخراجه انفتل وهذا يضرب مثلا للشيء الحقير التافه ومثله القطمير والنقير في ضرب المثل به والمعنى لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيل ونظيره قوله : (
ولا يظلمون شيئا ) (
فلا يخاف ظلما ولا هضما ) ( طه : 112 ) وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : الفتيل هو الوسخ الذي يظهر بفتل الإنسان إبهامه بسبابته وهو فعيل من الفتل بمعنى مفتول فإن قيل
لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم مع أن أصحاب الشمال يقرءونه أيضا ، قلنا الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملا على المهلكات العظيمة والقبائح الكاملة والمخازي الشديدة ، فيستولي الخوف والدهشة على قلوبهم ويثقل لسانهم فيعجزوا عن القراءة ، وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك لا جرم أنهم يقرءون كتابهم على أحسن الوجوه وأثبتها ، ثم لا يكتفون بقراءتهم وحدهم بل يقول القارئ لأهل الحشر : (
هاؤم اقرءوا كتابيه ) ( الحاقة : 19 ) فظهر الفرق ، والله أعلم ثم قال تعالى : (
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ
أبو عمرو وأبو بكر عن
عاصم ونصر عن
الكسائي : ومن كان في هذه أعمى بالإمالة
[ ص: 16 ] والكسر فهو في الآخرة أعمى بالفتح ، وقرأ بالفتح والتفخيم فيهما
ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن
عاصم ، وقرأ
حمزة والكسائي وأبو بكر عن
عاصم في رواية بالإمالة فيهما ، قال
أبو علي الفارسي : الوجه في تصحيح قراءة
أبي عمرو أن المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى وبهذا التقدير تكون هذه الكلمة تامة فتقبل الإمالة ، وأما في الكلمة الثانية فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل فكانت بمعنى " أفعل من " ، وبهذا التقدير لا تكون لفظة أعمى تامة فلم تقبل الإمالة ، والحاصل أن إدخال الإمالة في الأولى دل على أنه ليس المراد أفعل التفضيل وتركها في الثانية يدل على أن المراد منها أفعل التفضيل والله أعلم .
المسألة الثانية : لا شك أنه ليس المراد من قوله تعالى : (
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ) عمى البصر بل المراد منه عمى القلب ، أما قوله فهو في الآخرة أعمى ففيه قولان :
القول الأول : أن المراد منه أيضا عمى القلب وعلى هذا التقدير ففيه وجوه :
الأول : قال
عكرمة : جاء نفر من
أهل اليمن إلى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال : اقرأ ما قبلها فقرأ (
ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر ) إلى قوله (
تفضيلا ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : من كان أعمى في هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا ، وعلى هذا الوجه فقوله في هذه إشارة إلى النعم المذكورة في الآيات المتقدمة .
وثانيا : روى
أبو روق عن
الضحاك عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي في خلق السماوات والأرض والبحار والجبال والناس والدواب فهو عن أمر الآخرة أعمى وأضل سبيلا وأبعد عن تحصيل العلم به ، وعلى هذا الوجه فقوله : فمن كان في هذه إشارة إلى الدنيا ، وعلى هذين القولين فالمراد من كان في الدنيا أعمى القلب عن معرفة هذه النعم والدلائل فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى ، فالعمى في المرتين حصل في الدنيا .
وثالثها : قال
الحسن : من كان في الدنيا ضالا كافرا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ; لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته ، وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من أبواب الآفات وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة .
ورابعها : أنه لا يمكن حمل العمى الثاني على الجهل بالله لأن أهل الآخرة يعرفون الله بالضرورة ، فكان المراد منه العمى عن طريق الجنة أي :
ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن معرفة الله فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة .
وخامسها : أن الذين حصل لهم عمى القلب في الدنيا إنما حصلت هذه الحالة لهم لشدة حرصهم على تحصيل الدنيا وابتهاجهم بلذاتها وطيباتها فهذه الرغبة تزداد في الآخرة وتعظم هناك حسرتها على فوات الدنيا وليس معهم شيء من أنوار معرفة الله تعالى فيبقون في ظلمة شديدة وحسرة عظيمة ، فذاك هو المراد من العمى .
القول الثاني : أن يحمل العمى الثاني على عمى العين والبصر فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين والبصر كما قال : (
ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) ( طه : 124 ) وقال : (
ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما ) [ الإسراء : 97 ] وهذا العمى زيادة في عقوبتهم والله أعلم .