وقوله : (
مقاما محمودا ) فيه بحثان :
البحث الأول : في انتصاب قوله محمودا وجهان :
الأول : أن يكون انتصابه على الحال من قوله يبعثك أي : يبعثك محمودا .
والثاني : أن يكون نعتا للمقام وهو ظاهر .
البحث الثاني : في
تفسير المقام المحمود أقوال :
الأول : أنه الشفاعة ، قال
الواحدي : أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013108هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي " وأقول : اللفظ مشعر به ، وذلك لأن الإنسان إنما يصير محمودا إذا حمده حامد ، والحمد إنما يكون على الإنعام فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاما أنعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه على قوم فحمدوه على ذلك الإنعام ، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليم الشرع لأن ذلك كان حاصلا في الحال وقوله : (
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) تطميع وتطميع الإنسان في الشيء الذي وعده في الحال محال فوجب أن يكون ذلك الإنعام الذي لأجله يصير محمودا إنعاما سيصل منه حصل له بعد ذلك إلى الناس وما ذاك إلا شفاعته عند الله ، فدل هذا على أن لفظ الآية وهو قوله : (
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) يدل على هذا المعنى وأيضا التنكير في قوله مقاما محمودا يدل على أنه يحصل للنبي - عليه السلام - في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل ومن المعلوم أن حمد
[ ص: 27 ] الإنسان على سعيه في التخليص عن العقاب أعظم من حمده في السعي في زيادة من الثواب لا حاجة به إليها لأن احتياج الإنسان إلى دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله : (
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) هو الشفاعة في إسقاط العقاب على ما هو مذهب أهل السنة ، ولما ثبت أن لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعارا قويا ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى وجب حل اللفظ عليه ، ومما يؤكد هذا الوجه الدعاء المشهور وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون ، واتفق الناس على أن المراد منه الشفاعة .
والقول الثاني : قال
حذيفة : " يجمع الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأول مدعو
محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقول : لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت" فهذا هو المراد من قوله : (
عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) وأقول القول الأول أولى لأن سعيه في الشفاعة يفيده إقدام الناس على حمده فيصير محمودا ، وأما ذكر هذا الدعاء فلا يفيد إلا الثواب أما الحمد فلا ، فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى يحمده على هذا القول ؟ قلنا : لأن
الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الإنعام فقط ، فإن ورد لفظ الحمد في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز .
القول الثالث : المراد مقام تحمد عاقبته وهذا أيضا ضعيف للوجه الذي ذكرناه في القول الثاني .
القول الرابع : قال
الواحدي : روي عن
ابن مسعود أنه قال : "يقعد الله
محمدا على العرش" وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد أنه قال : يجلسه معه على العرش ، ثم قال
الواحدي : وهذا قول رذل موحش فظيع ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه :
الأول : ضد الإجلاس يقال بعثت النازل والقاعد فانبعث ، ويقال بعث الله الميت أي أقامه من قبره ، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد .
والثاني : أنه تعالى قال مقاما محمودا ولم يقل مقعدا ، والمقام موضع القيام لا موضع القعود .
والثالث : لو كان تعالى جالسا على العرش بحيث يجلس عنده
محمد - عليه الصلاة والسلام - لكان محدودا متناهيا ومن كان كذلك فهو محدث .
والرابع : يقال إن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزاز لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون في كل أهل الجنة إنهم يزورون الله تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا فيها في الدنيا ، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين لم يكن لتخصيص
محمد - صلى الله عليه وسلم - بها مزيد شرف ورتبة .
والخامس : أنه إذا قيل السلطان بعث فلانا فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه فثبت أن هذا القول كلام رذل ساقط لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين والله أعلم