(
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم )
قوله تعالى : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم )
اعلم أن هذا هو النعمة الثانية التي عمت المكلفين بأسرهم وما أحسن ما رعى الله سبحانه وتعالى هذا الترتيب ؛ فإن
الانتفاع بالأرض والسماء إنما يكون بعد حصول الحياة ، فلهذا ذكر الله أمر الحياة أولا ثم أتبعه بذكر السماء والأرض ، أما قوله : (
خلق ) فقد مر تفسيره في قوله : (
اعبدوا ربكم الذي خلقكم ) [ البقرة : 21 ] ، وأما قوله : (
لكم ) فهو يدل على أن المذكور بعد قوله : (
خلق ) لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا ، أما في الدنيا فليصلح أبداننا ولنتقوى به على الطاعات ، وأما في الدين فللاستدلال بهذه الأشياء والاعتبار بها ، وجمع بقوله :
[ ص: 142 ] (
ما في الأرض جميعا ) جميع المنافع ، فمنها ما يتصل بالحيوان والنبات والمعادن والجبال ، ومنها ما يتصل بضروب الحرف والأمور التي استنبطها العقلاء ، وبين تعالى أن كل ذلك إنما خلقها كي ينتفع بها ، كما قال : (
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ) [ الجاثية : 13 ] ، فكأنه سبحانه وتعالى قال : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ، وكيف تكفرون بالله وقد خلق لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا ، أو يقال : كيف تكفرون بقدرة الله على الإعادة وقد أحياكم بعد موتكم ، ولأنه خلق لكم ما في الأرض جميعا ، فكيف يعجز عن إعادتكم ، ثم إنه تعالى ذكر تفاصيل هذه المنافع في سور مختلفة كما قال : (
أنا صببنا الماء صبا ) [ عبس : 25 ] ، وقال في أول سورة أتى أمر الله (
والأنعام خلقها لكم ) [ النحل : 5 ] ، إلى آخره ، وههنا مسائل :
المسألة الأولى : قال أصحابنا : إنه
سبحانه وتعالى لا يفعل فعلا لغرض لأنه لو كان كذلك كان مستكملا بذلك الغرض ، والمستكمل بغيره ناقص بذاته وذلك على الله تعالى محال ، فإن قيل : فعله تعالى معلل بغرض غير عائد إليه بل إلى غيره ، قلنا : عود ذلك الغرض إلى ذلك الغير ، هل هو أولى لله تعالى من عود ذلك الغرض إليه أو ليس أولى ؟ فإن كان أولى فهو تعالى قد انتفع بذلك الفعل فيعود المحذور المذكور ، وإن كان الثاني لم يكن تحصيل ذلك الغرض المذكور لذلك الغير غرضا لله تعالى فلا يكون مؤثرا فيه .
وثانيها : أن من فعل فعلا لغرض كان عاجزا عن تحصيل ذلك الغرض إلا بواسطة ذلك الفعل ، والعجز على الله تعالى محال .
وثالثها : أنه تعالى لو فعل فعلا لغرض لكان ذلك الغرض إن كان قديما لزم قدم الفعل ، وإن كان محدثا كان فعله لذلك الغرض لغرض آخر ويلزم التسلسل وهو محال .
ورابعها : أنه تعالى لو كان يفعل لغرض لكان ذلك الغرض هو رعاية مصلحة المكلفين ، ولو توقفت فاعليته على ذلك لما فعل ما كان مفسدة في حقهم ، لكنه قد فعل ذلك حيث كلف من علم أنه لا يؤمن .
ثم إنهم تكلموا في اللام في قوله تعالى : (
خلق لكم ما في الأرض جميعا ) وفي قوله : (
إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] فقالوا : إنه تعالى لما فعل ما لو فعله غيره لكان فعله لذلك الشيء لأجل الغرض ، لا جرم أطلق الله عليه لفظ الغرض بسبب هذه المشابهة .