(
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا )
قوله تعالى : (
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) اعلم أنه تعالى لما ختم الآية المتقدمة بقوله : (
كل يعمل على شاكلته ) وذكرنا أن المراد منه مشاكلة الأرواح للأفعال الصادرة عنها وجب البحث ههنا عن
ماهية الروح وحقيقته فلذلك سألوا عن الروح وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : للمفسرين في الروح المذكورة في هذه الآية أقوال أظهرها أن المراد منه الروح الذي
[ ص: 31 ] هو سبب الحياة ، روي
أن اليهود قالوا لقريش : اسألوا محمدا عن ثلاث فإن أخبركم باثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي : اسألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الثلاثة فقال - عليه السلام - : غدا أخبركم ولم يقل إن شاء الله فانقطع عنه الوحي أربعين يوما ثم نزل الوحي بعده : ( ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) ( الكهف : 23 - 24) ثم فسر لهم قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وأبهم قصة الروح ونزل فيه قوله تعالى : ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) وبين أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة حقيقة الروح فقال : (
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) ومن الناس من طعن في هذه الرواية من وجوه :
أولها : أن الروح ليس أعظم شأنا ولا أعلى مكانا من الله تعالى فإذا كانت معرفة الله تعالى ممكنة بل حاصلة فأي مانع يمنع من معرفة الروح .
وثانيها : أن
اليهود قالوا : إن أجاب عن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ولم يجب عن الروح فهو نبي ، وهذا كلام بعيد عن العقل لأن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ليست إلا حكاية من الحكايات وذكر الحكاية يمتنع أن يكون دليلا على النبوة ، وأيضا فالحكاية التي يذكرها إما أن تعتبر قبل العلم بنبوته أو بعد العلم بنبوته ، فإن كان قبل العلم بنبوته كذبوه فيها وإن كان بعد العلم بنبوته فحينئذ صارت نبوته معلومة قبل ذلك فلا فائدة في ذكر هذه الحكاية ، وأما عدم الجواب عن حقيقة الروح فهذا يبعد جعله دليلا على صحة النبوة .
وثالثها : أن مسألة الروح يعرفها أصاغر الفلاسفة وأراذل المتكلمين فلو قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - إني لا أعرفها لأورث ذلك ما يوجب التحقير والتنفير فإن الجهل بمثل هذه المسألة يفيد تحقير أي إنسان كان فكيف الرسول الذي هو أعلم العلماء وأفضل الفضلاء .
ورابعها : أنه تعالى قال في حقه : (
الرحمن علم القرآن ) ( الرحمن : 1 ) (
وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) ( النساء : 113 ) وقال : (
وقل رب زدني علما ) ( طه : 114 ) وقال في صفة القرآن : (
ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) ( الأنعام : 59 ) ، وكان عليه السلام يقول : "
أرنا الأشياء كما هي " فمن كان هذا حاله وصفته كيف يليق به أن يقول أنا لا أعرف هذه المسألة مع أنها من المسائل المشهورة المذكورة بين جمهور الخلق ، بل المختار عندنا أنهم سألوه عن الروح وأنه - صلى الله عليه وسلم - أجاب عنه على أحسن الوجوه ، وتقريره أن المذكور في الآية أنهم سألوه عن الروح ، والسؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة :
أحدها : أن يقال ماهية الروح أهو متحيز أو حال في المتحيز أو موجود غير متحيز ولا حال في التحيز .
وثانيها : أن يقال الروح قديمة أو حادثة .
وثالثها : أن يقال الأرواح هل تبقى بعد موت الأجسام أو تفنى .
ورابعها : أن يقال ما حقيقة سعادة الأرواح وشقاوتها ، وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة ، وقوله : (
ويسألونك عن الروح ) ليس فيه ما يدل على أنهم عن هذه المسائل سألوا أو عن غيرها إلا أنه تعالى ذكر له في الجواب عن هذا السؤال قوله : (
قل الروح من أمر ربي ) وهذا الجواب لا يليق إلا بمسألتين من المسائل التي ذكرناها :
إحداهما : السؤال عن ماهية الروح والثانية عن قدمها وحدوثها .
أما البحث الأول : فهم قالوا ما حقيقة الروح وماهيته ؟ أهو عبارة عن أجسام موجودة في داخل هذا البدن متولدة من امتزاج الطبائع والأخلاط ، أو هو عبارة عن نفس هذا المزاج والتركيب أو هو عبارة عن عرض آخر قائم بهذه الأجسام ، أو هو عبارة عن موجود يغاير هذه الأجسام والأعراض ؟ فأجاب الله عنه بأنه موجود مغاير لهذه الأجسام ولهذه الأعراض وذلك لأن هذه الأجسام أشياء تحدث من امتزاج الأخلاط والعناصر ، وأما الروح فإنه ليس كذلك بل هو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث قوله : (
كن فيكون ) ( النحل : 40 )
[ ص: 32 ] فقالوا لم كان شيئا مغايرا لهذه الأجسام ولهذه الأعراض ، فأجاب الله عنه بأنه موجود يحدث بأمر الله وتكوينه وتأثيره في إفادة الحياة لهذا الجسد ، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء وماهياتها مجهولة ، فإنا نعلم أن السكنجبين له خاصية تقتضي قطع الصفراء ، فأما إذا أردنا أن نعرف ماهية تلك الخاصية وحقيقتها المخصوصة فذاك غير معلوم فثبت أن أكثر الماهيات والحقائق مجهولة ، ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها فكذلك ههنا وهذا هو المراد من قوله : (
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) .
وأما البحث الثاني : فهو أن لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل قال تعالى : (
وما أمر فرعون برشيد ) ( هود : 97 ) وقال : (
فلما جاء أمرنا ) ( هود : 82 ) أي فعلنا ، فقوله : (
قل الروح من أمر ربي ) أي من فعل ربي ، وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أن الروح قديمة أو حادثة فقال بل هي حادثة وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده ، ثم احتج على حدوث الروح بقوله : (
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) يعني أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها العلوم والمعارف فهي لا تزال تكون في التغيير من حال إلى حال وفي التبديل من نقصان إلى كمال ، والتغيير والتبديل من أمارات الحدوث فقوله : (
قل الروح من أمر ربي ) يدل على أنهم سألوه أن الروح هل هي حادثة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله وتكوينه وهو المراد من قوله : (
قل الروح من أمر ربي ) ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال وهو المراد من قوله : (
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) فهذا ما نقوله في هذا الباب والله أعلم .