المسألة السادسة : في
إثبات أن النفس ليست بجسم من الدلائل السمعية .
الحجة الأولى : قوله تعالى : (
ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) ( الحشر : 19 ) ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا ينسى هذا الهيكل المشاهد فدل ذلك على أن النفس التي ينساها الإنسان عند فرط الجهل شيء آخر غير هذا البدن .
الحجة الثانية : قوله تعالى : (
أخرجوا أنفسكم ) ( الأنعام : 93 ) وهذا صريح أن النفس غير البدن وقد استقصينا في تفسير هذه فليرجع إليه .
الحجة الثالثة : أنه تعالى ذكر
مراتب الخلقة الجسمانية فقال : (
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ) ( المؤمنون : 12 ) إلى قوله : (
فكسونا العظام لحما ) ( المؤمنون : 14 ) ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال : (
ثم أنشأناه خلقا آخر ) [ المؤمنون : 14 ] وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية وذلك يدل على أن الروح شيء مغاير للبدن فإن قالوا : هذه الآية حجة عليكم لأنه تعالى قال : (
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) [ المؤمنون : 12 ] وكلمة من للتبعيض وهذا يدل على أن الإنسان بعض من أبعاض الطين ، قلنا : كلمة " من " أصلها لابتداء الغاية كقولك خرجت من
البصرة إلى
الكوفة فقوله تعالى : (
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الإنسان حاصلا من هذه السلالة ونحن نقول بموجبه لأنه تعالى يسوي المزاج أولا ثم ينفخ فيه الروح فيكون ابتداء تخليقه من السلالة .
الحجة الرابعة : قوله : (
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) ( الحجر : 29 ) ميز تعالى بين البشرية وبين نفخ الروح فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء وتعديل المزاج والأشباح ، فلما ميز نفخ الروح عن تسوية الأعضاء ثم أضاف الروح إلى نفسه بقوله : (
من روحي ) دل ذلك على أن جوهر الروح معنى مغاير لجوهر الجسد .
الحجة الخامسة : قوله تعالى : (
ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) ( الشمس : 8 ) وهذه الآية صريحة في وجود شيء موصوف بالإدراك والتحريك حقا لأن الإلهام عبارة عن الإدراك ، وأما الفجور والتقوى فهو فعل ، وهذه الآية صريحة في أن الإنسان شيء واحد وهو موصوف أيضا بالإدراك والتحريك وموصوف أيضا بفعل الفجور تارة وفعل التقوى تارة أخرى ، ومعلوم أن جملة البدن غير موصوف بهذين الوصفين فلا بد من إثبات جوهر آخر يكون موصوفا بكل هذه الأمور .
الحجة السادسة : قوله تعالى : (
إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ) ( الإنسان : 2 ) فهذا تصريح بأن الإنسان شيء واحد وذلك الشيء هو المبتلى بالتكاليف الإلهية والأمور الربانية وهو الموصوف بالسمع والبصر ، ومجموع البدن ليس كذلك ، وليس عضوا من أعضاء البدن كذلك ، فالنفس شيء مغاير لجملة البدن ومغاير لأجزاء البدن وهو موصوف بكل هذه الصفات ، واعلم أن الأحاديث
[ ص: 44 ] الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة ، وكل ذلك يدل على أن النفس شيء غير هذا الجسد ، والعجب ممن يقرأ هذه الآيات الكثيرة ويروي هذه الأخبار الكثيرة ثم يقول توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان يعرف الروح وهذا من العجائب والله أعلم .