المسألة السابعة : في دلالة الآية التي نحن في تفسيرها على صحة ما ذكرناه أن
الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى فإذا سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الروح وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا حتى صار روحا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ، ثم مضغة فلما لم يقل ذلك بل قال : (
قل الروح من أمر ربي ) [ الإسراء : 85 ] بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له : (
كن فيكون ) ( النحل : 40 ) دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد ، واعلم أن أكثر العارفين المكاشفين من أصحاب الرياضيات وأرباب المكاشفات والمشاهدات مصرون على هذا القول جازمون بهذا المذهب ، قال
الواسطي : خلق الله الأرواح من بين الجمال والبهاء فلولا أنه سترها لسجد لها كل كافر ، وأما بيان أن تعلقه الأول بالقلب ثم بواسطته يصل تأثيره إلى جملة الأعضاء فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى : (
نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) ( الشعراء : 193 ) واحتج المنكرون بوجوه :
الأول : لو كانت مساوية لذات الله في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية وذلك محال .
الثاني : قوله تعالى : (
قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ) ( عبس : 21 ) وهذا تصريح بأن الإنسان شيء مخلوق من النطفة ، وأنه يموت ويدخل القبر ثم إنه تعالى يخرجه من القبر ، ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثة لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة .
الثالث : قوله : (
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ) ( آل عمران : 169 ) إلى قوله : (
يرزقون فرحين ) ( آل عمران : 170 ) وهذا يدل على أن الروح جسم لأن الأرزاق والفرح من صفات الأجسام .
الجواب عن الأول : أن المساواة في أنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز مساواة في صفة سلبية ، والمساواة في الصفة السلبية لا توجب المماثلة ، واعلم أن جماعة من الجهال يظنون أنه لما كان الروح موجودا ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وجب أن يكون مثلا للإله أو جزءا للإله وذلك جهل فاحش وغلط قبيح ، وتحقيقه ما ذكرناه من أن المساواة في السلوب لو أوجبت المماثلة لوجب القول باستواء كل المختلفات وأن كل ماهيتين مختلفتين فلا بد أن يشتركا في سلب كل ما عداهما ، فلتكن هذه الدقيقة معلومة فإنها مغلطة عظيمة للجهال .
والجواب عن الثاني : أنه لما كان الإنسان في العرف والظاهر عبارة عن هذه الجثة أطلق عليه اسم الإنسان في العرف .
والجواب عن الثالث : أن الرزق المذكور في الآية محمول على ما يقوي حالهم ويكمل كمالهم وهو معرفة الله ومحبته بل نقول هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا ; لأن أبدانهم قد بليت تحت التراب والله تعالى يقول إن أرواحهم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش ، وهذا يدل على أن الروح غير البدن وليكن هذا آخر كلامنا في هذا الباب ولنرجع إلى علم التفسير ، ثم قال تعالى : (
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) وعلى قولنا قد ذكرنا فيه احتمالين ، أما المفسرون فقالوا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : "
بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا " فقالوا : ما أعجب شأنك يا
محمد ساعة تقول :
[ ص: 45 ] (
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) [ البقرة : 269 ] وساعة تقول هذا ، فنزل قوله : (
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ) ( لقمان : 27 ) إلى آخره وما ذكروه ليس بلازم لأن الشيء قد يكون قليلا بالنسبة إلى شيء ، كثيرا بالنسبة إلى شيء آخر ،
فالعلوم الحاصلة عند الناس قليلة جدا بالنسبة إلى علم الله وبالنسبة إلى حقائق الأشياء ، ولكنها كثيرة بالنسبة إلى الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية .