(
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا )
قوله تعالى : (
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا )
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن القوم تعجبوا من قصة
أصحاب الكهف ، وسألوا عنها الرسول على سبيل الامتحان ، فقال تعالى : أم حسبت أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط ، فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب ، فإن من كان قادرا على تخليق السماوات والأرض ثم يزين الأرض بأنواع المعادن والنبات والحيوان ، ثم يجعلها بعد ذلك صعيدا جرزا خالية عن الكل كيف يستبعدون من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم ، هذا هو الوجه في تقرير النظم ، والله أعلم .
المسألة الثانية : قد ذكرنا
سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله : (
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) ( الإسراء : 85 ) وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=13114محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحا ، فقال :
كان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وكان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث رستم وإسفنديار ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا جلس مجلسا ذكر فيه الله وحدث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم ، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام ، فقال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه ، فهلموا فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ، ثم إن قريشا بعثوه وبعثوا معه عتبة بن [ ص: 70 ] أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة ، وقالوا لهما : سلوهم عن محمد وصفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما إلى المدينة ، فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد ، فقال أحبار اليهود : سلوه عن ثلاث : عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإن حديثهم عجب ، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ، وسلوه عن الروح وما هو ؟ فإن أخبركم فهو نبي وإلا فهو متقول ، فلما قدم النضر وصاحبه مكة ، قالا : قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد ، وأخبروا بما قاله اليهود فجاءوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسألوه ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "أخبركم بما سألتم عنه غدا" ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يذكرون خمس عشرة ليلة حتى أرجف أهل مكة به ، وقالوا : وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة فشق عليه ذلك ، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب الكهف ، وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم ، وفيها خبر أولئك الفتية ، وخبر الرجل الطواف .
المسألة الثالثة : الكهف : الغار الواسع في الجبل فإذا صغر فهو الغار ، وفي الرقيم أقوال :
الأول : روى
عكرمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : كل القرآن أعلمه إلا أربعة : غسلين وحنانا والأواه والرقيم .
الثاني : روى
عكرمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه سئل عن الرقيم ، فقال : زعم
كعب أنها القرية التي خرجوا منها وهو قول
السدي .
الثالث : قال
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد : الرقيم لوح من حجارة ، وقيل من رصاص كتب فيه أسماؤهم وقصتهم ، وشد ذلك اللوح على باب الكهف ، وهذا قول جميع أهل المعاني والعربية ، قالوا : الرقيم الكتاب ، والأصل فيه المرقوم ، ثم نقل إلى فعيل ، والرقم الكتابة ، ومنه قوله تعالى : (
كتاب مرقوم ) ( المطففين : 9 ) أي مكتوب ، قال
الفراء : الرقيم لوح كان فيه أسماؤهم وصفاتهم ، ونظن أنه إنما سمي رقيما ؛ لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه ، وقيل : الناس رقموا حديثهم نقرا في جانب الجبل ، وقوله : (
كانوا من آياتنا عجبا ) المراد أحسبت أن واقعتهم كانت عجيبة في أحوال مخلوقاتنا ؟ فلا تحسب ذلك ، فإن تلك الواقعة ليست عجيبة في جانب مخلوقاتنا ، والعجب ههنا مصدر سمي المفعول به ، والتقدير : كانوا معجوبا منهم ، فسموا بالمصدر والمفعول به من هذا يستعمل باسم المصدر ، ثم قال تعالى : (
إذ أوى الفتية إلى الكهف ) لا يجوز أن يكون إذ هنا متعلقا بما قبله على تقدير : أم حسبت إذ أوى الفتية لأنه كان بين النبي وبينهم مدة طويلة ، فلم يتعلق الحسبان بذلك الوقت الذي أووا فيه إلى الكهف بل يتعلق بمحذوف ، والتقدير : اذكر إذ أوى ، ومعنى أوى الفتية في الكهف صاروا إليه وجعلوه مأواهم ، قال : فقالوا : (
ربنا آتنا من لدنك رحمة ) أي رحمة من خزائن رحمتك وجلائل فضلك وإحسانك وهي الهداية بالمعرفة والصبر والرزق والأمن من الأعداء ، وقوله : من لدنك يدل على عظمة تلك الرحمة ، وهي التي تكون لائقة بفضل الله تعالى وواسع جوده ، وهيئ لنا أي أصلح من قولك هيأت الأمر فتهيأ (
من أمرنا رشدا ) الرشد والرشاد نقيض الضلال ، وفي تفسير اللفظ وجهان :
الأول : التقدير وهيئ لنا أمرا ذا رشد حتى نكون بسببه راشدين مهتدين .
الثاني : اجعل أمرنا رشدا كله ، كقولك : رأيت منك رشدا ، ثم قال تعالى : (
فضربنا على آذانهم ) قال المفسرون : معناه أنمناهم وتقدير الكلام أنه تعالى
ضرب على آذانهم حجابا يمنع من أن تصل إلى أسماعهم الأصوات الموقظة ، والتقدير : ضربنا عليهم حجابا إلا أنه حذف المفعول الذي هو الحجاب ، كما يقال : بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة ، ثم إنه تعالى بين أنه ضرب على آذانهم في الكهف ، وهو ظرف المكان ، وقوله : سنين عددا ظرف الزمان ، وفي قوله : (
عددا ) بحثان :
الأول : قال
الزجاج : ذكر العدد ههنا يفيد كثرة السنين ، وكذلك كل شيء مما يعد إذا ذكر فيه العدد ووصف به أريد كثرته ؛ لأنه إذا قل فهم مقداره بدون
[ ص: 71 ] التعديد ، أما إذا أكثر فهناك يحتاج إلى التعديد ، فإذا قلت : أقمت أياما عددا أردت به الكثرة .
البحث الثاني : في انتصاب قوله : عددا وجهان :
أحدهما : نعت لسنين ، المعنى : سنين ذات عدد ، أي معدودة ، هذا قول
الفراء وقول
الزجاج ، وعلى هذا يجوز في الآية ضربان من التقدير :
أحدهما : حذف المضاف .
والثاني : تسمية المفعول باسم المصدر ، قال
الزجاج : ويجوز أن ينتصب على المصدر ، المعنى : تعد عدا ، ثم قال تعالى : (
ثم بعثناهم ) يريد من بعد نومهم يعني أيقظناهم بعد نومهم