[ ص: 105 ] (
واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترني أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا )
قوله تعالى : (
واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترني أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا )
اعلم أن المقصود من هذا أن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فبين الله تعالى أن ذلك مما لا يوجب الافتخار ، لاحتمال أن يصير الفقير غنيا والغني فقيرا ، أما
الذي يجب حصول المفاخرة به ، فطاعة الله وعبادته ، وهي حاصلة لفقراء المؤمنين ، وبين ذلك بضرب هذا المثل المذكور في الآية ، فقال : (
واضرب لهم مثلا رجلين ) أي : مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين كانا أخوين في
بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه
براطوس والآخر مؤمن اسمه
يهوذا ، وقيل : هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى : (
قال قائل منهم إني كان لي قرين ) ( الصافات : 51 ) ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار ، فأخذ كل واحد منهما النصف فاشترى الكافر أرضا ، فقال المؤمن : اللهم إني أشتري منك أرضا في الجنة بألف ، فتصدق به ، ثم بنى أخوه دارا بألف ، فقال المؤمن : اللهم إني اشتري منك دارا في الجنة بألف فتصدق به ، ثم تزوج أخوه امرأة بألف ، فقال المؤمن : اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور العين ، ثم اشترى أخوه خدما وضياعا بألف ، فقال المؤمن :
[ ص: 106 ] اللهم إني اشتريت منك الولدان بألف فتصدق به ، ثم أصابه حاجة ، فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله ، وقوله تعالى : (
جعلنا لأحدهما جنتين ) ، فاعلم أن الله تعالى وصف تلك الجنة بصفات :
الصفة الأولى : كونها جنة ، وسمي البستان جنة ؛ لاستتار ما يستتر فيها بظل الأشجار ، وأصل الكلمة من الستر والتغطية .
والصفة الثانية : قوله : (
وحففناهما بنخل ) أي وجعلنا النخل محيطا بالجنتين ، نظيره قوله تعالى : (
وترى الملائكة حافين من حول العرش ) ( الزمر : 75 ) أي واقفين حول العرش محيطين به ، والحفاف جانب الشيء ، والأحفة جمع ، فمعنى قول القائل : حف به القوم أي صاروا في أحفته ، وهي جوانبه ، قال الشاعر :
له لحظات في حفافي سريره إذا كرها فيها عقاب ونائل
قال صاحب "الكشاف" : حفوه إذا طافوا به ، وحففته بهم أي جعلتهم حافين حوله ، وهو متعد إلى مفعول واحد ، فتزيده الباء مفعولا ثانيا ، كقوله : غشيته وغشيته به ، قال : وهذه الصفة مما يؤثرها الدهاقين في كرومهم ، وهي أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة ، وهو أيضا حسن في المنظر .
الصفة الثالثة : (
وجعلنا بينهما زرعا ) والمقصود منه أمور :
أحدها : أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه .
وثانيها : أن تكون تلك الأرض متسعة الأطراف متباعدة الأكناف ، ومع ذلك فإنها لم يتوسطها ما يقطع بعضها عن بعض .
وثالثها : أن مثل هذه الأرض تأتي في كل وقت بمنفعة أخرى ، وهي ثمرة أخرى ، فكانت منافعها دارة متواصلة .
الصفة الرابعة : قوله تعالى : (
كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ) كلا اسم مفرد معرفة يؤكد به مذكران معرفتان ، وكلتا اسم مفرد يؤكد به مؤنثان معرفتان ، وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة ، كقولك : جاءني كلا أخويك ، ورأيت كلا أخويك ، ومررت بكلا أخويك ، وجاءني كلتا أختيك ، ورأيت كلتا أختيك ، ومررت بكلتا أختيك ، وإذا أضيفا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف ، وفي الجر والنصب بالياء وبعضهم يقول : مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضا ، وقوله : (
آتت أكلها ) حمل على اللفظ لأن كلتا لفظه لفظ مفرد ، ولو قيل : آتتا على المعنى لجاز ، وقوله : (
ولم تظلم منه شيئا ) أي لم تنقص والظلم النقصان ، يقول الرجل : ظلمني حقي أي نقصني .
الصفة الخامسة : قوله تعالى : (
وفجرنا خلالهما نهرا ) أي كان النهر يجري في داخل تلك الجنتين ، وفي قراءة
يعقوب وفجرنا مخففة وفي قراءة الباقين : (وفجرنا) مشددة ، والتخفيف هو الأصل ؛ لأنه نهر واحد والتشديد على المبالغة ؛ لأن النهر يمتد فيكون كأنهار و(
خلالهما ) أي وسطهما وبينهما ، ومنه قوله تعالى : (
ولأوضعوا خلالكم ) ( التوبة : 47 ) . ومنه يقال : خللت القوم أي دخلت بين القوم .
الصفة السادسة : قوله تعالى : (
وكان له ثمر ) قرأ
عاصم بفتح الثاء والميم في الموضعين ، وهو جمع ثمار أو ثمرة ، وقرأ
أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم في الحرفين ، والباقون بضم الثاء والميم في الحرفين ذكر أهل اللغة : أنه بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما ، وبالفتح حمل الشجر ، قال
قطرب : كان
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبو عمرو بن العلاء يقول : الثمر المال والولد ، وأنشد
للحارث بن كلدة :
ولقد رأيت معاشرا قد أثمروا مالا وولدا
وقال
النابغة :
مهلا فداء لك الأقوام كلهم ما أثمروه أمن مال ومن ولد
[ ص: 107 ] وقوله : (
وكان له ثمر ) أي أنواع من المال من ثمر ماله إذا كثر ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : الذهب والفضة : أي كان مع الجنتين أشياء من النقود ، ولما ذكر الله تعالى هذه الصفات قال بعده : (
فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ) والمعنى : أن المسلم كان يحاوره بالوعظ والدعاء إلى الإيمان بالله وبالبعث ، والمحاورة مراجعة الكلام من قولهم : حار إذا رجع ، قال تعالى : (
إنه ظن أن لن يحور بلى ) ( الانشقاق : 14 - 15 ) ، فذكر تعالى أن عند هذه المحاورة قال الكافر : (
أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ) والنفر عشيرة الرجل وأصحابه الذين يقومون بالذب عنه وينفرون معه ، وحاصل الكلام أن
الكافر ترفع على المؤمن بجاهه وماله ، ثم إنه أراد أن يظهر لذلك المسلم كثرة ماله ، فأخبر الله تعالى عن هذه الحالة ، فقال : (
ودخل جنته ) وأراه إياها على الحالة الموجبة للبهجة والسرور وأخبره بصنوف ما يملكه من المال ، فإن قيل : لم أفرد الجنة بعد التثنية ؟ قلنا : المراد أنه ليس له جنة ولا نصيب في الجنة التي وعد المتقون المؤمنون ، وهذا الذي ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد الجنتين ولا واحدا منهما ، ثم قال تعالى : (
وهو ظالم لنفسه ) وهو اعتراض وقع في أثناء الكلام ، والمراد التنبيه على أنه لما اعتز بتلك النعم وتوسل بها إلى الكفران والجحود لقدرته على البعث كان واضعا تلك النعم في غير موضعها ، ثم حكى تعالى عن الكافر أنه قال : (
ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ) فجمع بين هذين ، فالأول قطعه بأن تلك الأشياء لا تهلك ولا تبيد أبدا مع أنها متغيرة متبدلة ، فإن قيل : هب أنه شك في القيامة ، فكيف قال : (
ما أظن أن تبيد هذه أبدا ) مع أن الحدس يدل على أن
أحوال الدنيا بأسرها ذاهبة باطلة غير باقية ؟ قلنا : المراد أنها لا تبيد مدة حياته ووجوده ، ثم قال : (
ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) أي مرجعا وعاقبة وانتصابه على التمييز ، ونظيره قوله تعالى : (
ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ) ( فصلت : 50 ) وقوله : (
لأوتين مالا وولدا ) ( مريم : 77 ) والسبب في وقوع هذه الشبهة : أنه تعالى لما أعطاه المال في الدنيا ظن أنه إنما أعطاه ذلك لكونه مستحقا له ، والاستحقاق باق بعد الموت فوجب حصول العطاء ، والمقدمة الأولى كاذبة فإن فتح باب الدنيا على الإنسان يكون في أكثر الأمر للاستدراك والتملية ، قرأ
نافع ،
وابن كثير خيرا منهما ، والمقصود عود الكناية إلى الجنتين ، والباقون منها ، والمقصود عود الكناية إلى الجنة التي دخلها