صفحة جزء
المسألة الثانية : الملك أصله من الرسالة ، يقال : ألكني إليه أي أرسلني إليه ، والمألكة والألوكة الرسالة ، وأصله الهمزة من " ملأكة " حذفت الهمزة وألقيت حركتها على ما قبلها طلبا للخفة لكثرة استعمالها ، قال صاحب الكشاف : الملائك جمع ملأك على الأصل كالشمال في جمع شمأل وإلحاق التاء لتأنيث الجمع .

المسألة الثالثة : من الناس من قال : الكلام في الملائكة ينبغي أن يكون مقدما على الكلام في الأنبياء لوجهين :

الأول : أن الله تعالى قدم ذكر الإيمان بالملائكة على ذكر الإيمان بالرسل في قوله : ( والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ) [البقرة : 285] ولقد قال عليه السلام : " ابدءوا بما بدأ الله به " .

الثاني : أن الملك واسطة بين الله وبين الرسول في تبليغ الوحي والشريعة فكان مقدما على الرسول ، ومن الناس من قال : الكلام في النبوات مقدم على الكلام في الملائكة ؛ لأنه لا طريق لنا إلى معرفة وجود الملائكة بالعقل بل بالسمع ، فكان الكلام في النبوات أصلا للكلام في الملائكة فلا جرم وجب تقديم الكلام في النبوات ، والأولى أن يقال : الملك قبل النبي بالشرف والعلية ، وبعده في عقولنا وأذهاننا بحسب وصولنا إليها بأفكارنا .

واعلم أنه لا خلاف بين العقلاء في أن شرف الرتبة للعالم العلوي هو وجود الملائكة فيه ، كما أن شرف الرتبة للعالم السفلي هو وجود الإنسان فيه إلا أن الناس اختلفوا في ماهية الملائكة وحقيقتهم .

وطريق ضبط المذاهب أن يقال : الملائكة لا بد وأن تكون ذواتا قائمة بأنفسها ، ثم إن تلك الذوات إما أن تكون متحيزة أو لا تكون ، أما الأول : وهو أن تكون الملائكة ذواتا متحيزة فهنا أقوال :

أحدها : أنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكل بأشكال مختلفة مسكنها السماوات ، وهذا قول أكثر المسلمين .

وثانيا : قول طوائف من عبدة الأوثان وهو أن الملائكة هي الحقيقة في هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد والإنحاس ، فإنها بزعمهم أحياء ناطقة ، وأن المسعدات منها ملائكة الرحمة ، والمنحسات منها ملائكة العذاب .

وثالثها : قول معظم المجوس والثنوية وهو أن هذا العالم مركب من أصلين أزليين وهما النور والظلمة ، وهما في الحقيقة جوهران شفافان مختاران قادران متضادا النفس والصورة مختلفا الفعل والتدبير ، فجوهر النور فاضل خير نقي طيب الريح كريم النفس يسر ولا يضر ، وينفع ولا يمنع ، ويحيي ولا يبلي ، وجوهر الظلمة على ضد ذلك ، ثم إن جوهر النور لم يزل يولد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح ، بل على سبيل تولد الحكمة من الحكيم والضوء من المضيء ، وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء وهم الشياطين على سبيل تولد السفه من السفيه ، لا على سبيل التناكح ، فهذه أقوال من جعل الملائكة [ ص: 148 ] أشياء متحيزة جسمانية .

القول الثاني : أن الملائكة ذوات قائمة بأنفسها وليست بمتحيزة ولا بأجسام فههنا قولان :

أحدهما : قول طوائف من النصارى وهو أن الملائكة في الحقيقة هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها على نعت الصفاء والخيرية ؛ وذلك لأن هذه النفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة ، وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين .

وثانيهما : قول الفلاسفة : وهي أنها جواهر قائمة بأنفسها وليست بمتحيزة البتة ، وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس الناطقة البشرية ، وأنها أكمل قوة منها وأكثر علما منها ، وأنها للنفوس البشرية جارية مجرى الشمس بالنسبة إلى الأضواء ، ثم إن هذه الجواهر على قسمين ، منها ما هي بالنسبة إلى أجرام الأفلاك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا ، ومنها ما هي لا على شيء من تدبير الأفلاك بل هي مستغرقة في معرفة الله ومحبته ومشتغلة بطاعته ، وهذا القسم هم الملائكة المقربون ، ونسبتهم إلى الملائكة الذين يدبرون السماوات كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة .

فهذان القسمان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما ، ومنهم من أثبت أنواعا أخر من الملائكة وهي الملائكة الأرضية المدبرة لأحوال هذا العالم السفلي ، ثم إن المدبرات لهذا العالم إن كانت خيرة فهم الملائكة ، وإن كانت شريرة فهم الشياطين ، فهذا تفصيل مذاهب الناس في الملائكة .

واختلف أهل العلم في أنه هل يمكن الحكم بوجودها من حيث العقل أو لا سبيل إلى إثباتها إلا بالسمع ؟ أما الفلاسفة فقد اتفقوا على أن في العقل دلائل تدل على وجود الملائكة ، ولنا معهم في تلك الدلائل أبحاث دقيقة عميقة ، ومن الناس من ذكر في ذلك وجوها عقلية إقناعية ولنشر إليها .

أحدها : أن المراد من الملك الحي الناطق الذي لا يكون ميتا ، فنقول : القسمة العقلية تقتضي وجود أقسام ثلاثة ، فإن الحي إما أن يكون ناطقا وميتا معا وهو الإنسان ، أو يكون ميتا ولا يكون ناطقا وهو البهائم ، أو يكون ناطقا ولا يكون ميتا وهو الملك ، ولا شك أن أخس المراتب هو الميت غير الناطق ، وأوسطها الناطق الميت ، وأشرفها الناطق الذي ليس بميت ، فإذا اقتضت الحكمة الإلهية إيجاد أخس المراتب وأوسطها ، فلأن تقتضي إيجاد أشرف المراتب وأعلاها كان ذلك أولى .

وثانيها : أن الفطرة تشهد بأن عالم السماوات أشرف من هذا العالم السفلي ، وتشهد بأن الحياة والعقل والنطق أشرف من أضدادها ومقابلتها ، فيبعد في العقل أن تحصل الحياة ، والعقل والنطق في هذا العالم الكدر الظلماني ، ولا تحصل البتة في ذلك العالم الذي هو عالم الضوء والنور والشرف .

وثالثها : أن أصحاب المجاهدات أثبتوها من جهة المشاهدة والمكاشفة ، وأصحاب الحاجات والضرورات أثبتوها من جهة أخرى ، وهي ما يشاهد من عجائب آثارها في الهداية إلى المعالجات النادرة الغريبة ، وتركيب المعجونات واستخراج صنعة الترياقات ، ومما يدل على ذلك حال الرؤيا الصادقة ، فهذه وجوه إقناعية بالنسبة إلى من سمعها ولم يمارسها ، وقطعية بالنسبة إلى من جربها وشاهدها واطلع على أسرارها ، وأما الدلائل النقلية فلا نزاع البتة بين الأنبياء عليهم السلام في إثبات الملائكة ، بل ذلك كالأمر المجمع عليه بينهم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية