(
فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا ) .
قوله تعالى : (
فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا ) .
[ ص: 197 ] اعلم أنه ما خسر على الله أحد فإن
إبراهيم - عليه السلام - لما اعتزلهم في دينهم ، وفي بلدهم واختار الهجرة إلى ربه إلى حيث أمره لم يضره ذلك دينا ودنيا ، بل نفعه فعوضه أولادا أنبياء ، ولا حالة في الدين والدنيا للبشر أرفع من أن يجعل الله له رسولا إلى خلقه ويلزم الخلق طاعته والانقياد له مع ما يحصل فيه من عظيم المنزلة في الآخرة ، فصار جعله تعالى إياهم أنبياء من أعظم النعم في الدنيا والآخرة ، ثم بين تعالى أنه مع ذلك وهب لهم من رحمته أي وهب لهم من النبوة ما وهب ، ويدخل فيه المال والجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيبة ثم قال : (
وجعلنا لهم لسان صدق عليا ) ولسان الصدق الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان ، كما عبر باليد عما يعطى باليد وهو العطية ، واستجاب الله دعوته في قوله : (
واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) [ الشعراء : 84 ] فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم ، وقال عز وجل : (
ملة أبيكم إبراهيم ) ، (
ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) [ النحل : 123 ] قال بعضهم :
إن الخليل اعتزل عن الخلق على ما قال : (
وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ) فلا جرم بارك الله في أولاده فقال : (
وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ) .
وثانيها : أنه
تبرأ من أبيه في الله تعالى على ما قال : (
فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ) [ التوبة : 114 ] لا جرم أن الله سماه أبا للمسلمين فقال : (
ملة أبيكم إبراهيم ) [الحج : 78] .
وثالثها : تل ولده للجبين ليذبحه على ما قال : (
فلما أسلما وتله للجبين ) [ الصافات : 103 ] لا جرم فداه الله تعالى على ما قال : (
وفديناه بذبح عظيم ) [ الصافات : 107 ] .
ورابعها : أسلم نفسه فقال : (
أسلمت لرب العالمين ) [ البقرة : 131 ]
فجعل الله تعالى النار عليه بردا وسلاما فقال : (
قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) [ الأنبياء : 69 ] .
وخامسها : أشفق على هذه الأمة فقال : (
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) [ البقرة : 129 ] لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات الخمس ، كما صليت وباركت على
إبراهيم وعلى
آل إبراهيم .
وسادسها : في حق
سارة في قوله : (
وإبراهيم الذي وفى ) [ النجم : 37 ] لا جرم جعل موطئ قدميه مباركا : (
واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) [ البقرة : 125 ] .
وسابعها : عادى كل الخلق في الله فقال : (
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) [ الشعراء : 77 ] لا جرم اتخذه الله خليلا على ما قال : (
واتخذ الله إبراهيم خليلا ) [ النساء : 125 ] ليعلم صحة قولنا أنه ما خسر على الله أحد .