أما قوله تعالى : (
ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب " الكشاف " : إن جعلت طه تعديدا لأسماء الحروف فهذا ابتداء كلام ، وإن جعلتها اسما للسورة احتمل أن يكون قوله : (
ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) خبرا عنها وهي في موضع المبتدأ والقرآن ظاهر أوقع موقع المضمر ؛ لأنها قرآن وأن يكون جوابا لها وهي قسم .
المسألة الثانية : قرئ " ما نزل عليك القرآن لتشقى " .
المسألة الثالثة : ذكروا في سبب نزول الآية وجوها :
أحدها : قال
مقاتل إن
أبا جهل ،
والوليد بن المغيرة ،
ومطعم بن عدي ، والنضر بن الحارث ، قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك فقال - عليه السلام - : " بل بعثت رحمة للعالمين " قالوا : بل أنت تشقى ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليهم ، وتعريفا
لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بأن دين الإسلام هو السلام ، وهذا
القرآن هو السلام إلى نيل كل فوز ، والسبب في إدراك كل سعادة ، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها .
وثانيها :
أنه - عليه السلام - صلى بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل - عليه السلام - : " أبق على نفسك فإن لها عليك حقا " أي ما أنزلناه لتهلك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة ، وروي أيضا أنه - عليه السلام - : "
كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام " وقال بعضهم كان يقوم على رجل واحدة ، وقال بعضهم كان يسهر طول الليل فأراد بقوله : (
لتشقى ) ذلك ، قال القاضي هذا بعيد ؛ لأنه - عليه السلام - إن فعل شيئا من ذلك فلا بد وأن يكون قد فعله بأمر الله تعالى ، وإذا فعله بأمره فهو من باب السعادة ، فلا يجوز أن يقال له : ما أمرناك بذلك .
وثالثها : قال بعضهم يحتمل أن يكون المراد لا تشق على نفسك ولا تعذبها
[ ص: 5 ] بالأسف على كفر هؤلاء فإنا إنما أنزلنا عليك القرآن ؛ لتذكر به ، فمن آمن وأصلح فلنفسه ، ومن كفر فلا يحزنك كفره فما عليك إلا البلاغ وهو كقوله تعالى : (
لعلك باخع نفسك ) [ الشعراء : 3 ] الآية ، (
ولا يحزنك قولهم ) [ يونس : 65 ] .
ورابعها : أنك لا تلام على كفر قومك كقوله تعالى : (
لست عليهم بمسيطر ) [ الغاشية : 22 ] ، (
وما أنت عليهم بوكيل ) [ الشورى : 6 ] أي ليس عليك كفرهم إذا بلغت ولا تؤاخذ بذنبهم .
وخامسها : أن هذه السورة من
أوائل ما نزل بمكة وفي ذلك الوقت كان - عليه السلام - مقهورا تحت ذل أعدائه فكأنه سبحانه قال له لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة أبدا بل يعلو أمرك ويظهر قدرك ، فإنا ما أنزلنا عليك مثل هذا القرآن لتبقى شقيا فيما بينهم ، بل تصير معظما مكرما . وأما قوله تعالى : (
إلا تذكرة لمن يخشى ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في كلمة ( إلا ) ههنا قولان :
أحدهما : أنه استثناء منقطع بمعنى لكن .
والثاني : التقدير ما أنزلنا عليك القرآن لتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة كما يقال ما شافهناك بهذا الكلام لتتأذى إلا ليعتبر بك غيرك .
المسألة الثانية : إنما خص من يخشى بالتذكرة ؛ لأنهم المنتفعون بها وإن كان ذلك عاما في الجميع وهو كقوله : (
هدى للمتقين ) [ البقرة : 2 ] وقال سبحانه وتعالى : (
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) [ الفرقان : 1 ] وقال : (
لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ) [ يس : 6 ] وقال : (
وتنذر به قوما لدا ) [ مريم : 97 ] وقال : (
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) [الذاريات : 55] .
المسألة الثالثة : وجه
كون القرآن تذكرة أنه - عليه السلام - كان يعظهم به وببيانه فيدخل تحت قوله (
لمن يخشى ) الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه في الخشية والتذكرة بالقرآن كان فوق الكل .