(
قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) .
[ ص: 55 ]
قوله تعالى : (
قال فمن ربكما ياموسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) .
اعلم أنهما عليهما السلام لما قالا : (
إنا رسولا ربك ) قال لهما : (
فمن ربكما ياموسى ) ، فيه مسائل :
المسألة الأولى : أن
فرعون كان شديد القوة عظيم الغلبة كثير العسكر ، ثم إن
موسى عليه السلام لما دعاه إلى الله تعالى لم يشتغل معه بالبطش والإيذاء بل خرج معه في المناظرة لما أنه لو شرع أولا في الإيذاء لنسب إلى الجهل والسفاهة فاستنكف من ذلك وشرع أولا في المناظرة ، وذلك يدل على أن السفاهة من غير الحجة شيء ما كان يرتضيه
فرعون مع كمال جهله وكفره ، فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم ، ثم إن
فرعون لما سأل
موسى عليه السلام عن ذلك قبل
موسى ذلك السؤال واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع ، وذلك يدل على فساد التقليد ويدل أيضا على فساد قول
التعليمية الذين يقولون : نستفيد معرفة الإله من قول الرسول لأن
موسى عليه السلام اعترف ههنا بأن معرفة الله تعالى يجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول وتدل على فساد قول
الحشوية الذين يقولون : نستفيد معرفة الله والدين من الكتاب والسنة .
المسألة الثانية : تدل الآية على أنه يجوز حكاية كلام المبطل لأنه تعالى حكى كلام
فرعون في إنكاره الإله وحكى شبهات منكري النبوة وشبهات منكري الحشر ، إلا أنه يجب أنك متى أوردت السؤال فاقرنه بالجواب لئلا يبقى الشك كما فعل الله تعالى في هذه المواضع .
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن
المحق يجب عليه استماع كلام المبطل ، والجواب عنه من غير إيذاء ولا إيحاش كما فعل
موسى عليه السلام
بفرعون ههنا وكما أمر الله تعالى رسوله في قوله : (
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) [ النحل : 125 ] ، وقال : (
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) [ التوبة : 6 ] .
المسألة الرابعة :
اختلف الناس في أن فرعون هل كان عارفا بالله تعالى فقيل : إنه كان عارفا إلا أنه كان يظهر الإنكار تكبرا وتجبرا وزورا وبهتانا ، واحتجوا عليه بستة أوجه :
أحدها : قوله : (
لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض ) [ الإسراء : 102 ] فمتى نصبت التاء في علمت كان ذلك خطابا من
موسى عليه السلام مع
فرعون فدل ذلك على أن
فرعون كان عالما بذلك وكذا قوله تعالى : (
وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) [ النمل : 14 ] .
وثانيها : أنه كان عاقلا وإلا لم يجز تكليفه ، وكل من كان عاقلا قد علم بالضرورة أنه وجد بعد العدم ، وكل من كان كذلك افتقر إلى مدبر ، وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبر .
وثالثها : قول
موسى عليه السلام ههنا : (
ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) وكلمة الذي
[ ص: 56 ] تقتضي وصف المعرفة بجملة معلومة فلا بد وأن تكون هذه الجملة قد كانت معلومة له .
ورابعها : قوله في سورة القصص في صفة
فرعون وقومه (
وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ) فذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بالمبدأ إلا أنهم كانوا منكرين للمعاد .
وخامسها : أن
ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ
الشام ولما هرب
موسى عليه السلام إلى
مدين قال له
شعيب : (
لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) [ القصص : 25 ] فمع هذا كيف يعتقد أنه إله العالم ؟
وسادسها : أنه لما قال : (
وما رب العالمين ) [ الشعراء : 23 ] قال
موسى عليه السلام : (
رب السماوات والأرض وما بينهما ) [ الشعراء : 24 ] قال : (
إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ) [ الشعراء : 27 ] يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوصف فهو لم ينازع
موسى في الوجود بل طلب منه الماهية فدل هذا على اعترافه بأصل الوجود ، ومن الناس من قال إنه كان جاهلا بربه واتفقوا على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السماوات والأرضين والشمس والقمر ، وأنه خالق نفسه لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله فيحصل العلم الضروري بأنه ليس موجودا لها ولا خالقا لها ، واختلفوا في كيفية جهله بالله تعالى فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للمؤثر أصلا ، ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة ، ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة . وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره .
المسألة الخامسة : أنه سبحانه حكى عنه في هذه السورة أنه قال : (
فمن ربكما ياموسى ) وقال في سورة الشعراء : (
وما رب العالمين ) فالسؤال ههنا بمن وهو عن الكيفية ، وفي سورة الشعراء بما وهو عن الماهية ، وهما سؤالان مختلفان والواقعة واحدة ، والأقرب أن يقال : سؤال من كان مقدما على سؤال ما لأنه كان يقول إني أنا الله والرب فقال : فمن ربكما ؟ فلما أقام
موسى الدلالة على الوجود وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام لظهوره وجلائه عدل إلى المقام الثاني وهو طلب الماهية ، وهذا أيضا مما ينبه على أنه كان عالما بالله لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره وشرع في المقام الصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر .
المسألة السادسة : إنما قال : (
فمن ربكما ) ولم يقل : فمن إلهكما لأنه أثبت نفسه ربا في قوله : (
ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ) [ الشعراء : 18 ] فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال له : أنا ربك فلم تدعي ربا آخر ، وهذا الكلام شبيه بكلام نمروذ ; لأن إبراهيم عليه السلام لما قال : (
ربي الذي يحيي ويميت ) [ البقرة : 258 ] قال نمروذ له : (
أنا أحيي وأميت ) [ البقرة : 258 ] ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرهما
إبراهيم عليه السلام هما الذي عارضه بهما
نمروذ إلا في اللفظ فكذا ههنا لما ادعى
موسى ربوبية الله تعالى ذكر
فرعون هذا الكلام ومراده أني أنا الرب لأني ربيتك ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها
موسى لله سبحانه وتعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ .