المسألة التاسعة : في قوله : (
الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) وجهان :
أحدهما : التقديم والتأخير أي
أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به .
وثانيهما : أن يكون المراد من الخلق الشكل والصورة المطابقة للمنفعة فكأنه سبحانه قال : أعطى كل شيء الشكل الذي يطابق منفعته ومصلحته ، وقرئ خلقه صفة للمضاف أو المضاف إليه ، والمعنى أن كل شيء خلقه الله لم يخله من إعطائه وإنعامه ، وأما قوله تعالى : (
قال فما بال القرون الأولى ) فاعلم أن في ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوها :
أحدها : أن
موسى عليه السلام لما قرر على
فرعون أمر المبدأ والمعاد قال
فرعون : إن كان إثبات المبدأ في هذا الحد من الظهور : (
فما بال القرون الأولى ) ما أثبتوه وتركوه ؟ فكان
موسى عليه السلام لما استدل بالدلالة القاطعة على
إثبات الصانع قدح
فرعون في تلك الدلالة بقوله : إن كان الأمر في قوة هذه الدلالة على ما ذكرت وجب على أهل القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها فعارض الحجة بالتقليد .
وثانيها : أن
موسى عليه السلام هدد بالعذاب أولا في قوله : (
إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ) فقال
فرعون : (
فما بال القرون الأولى ) فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا ؟
وثالثها : وهو الأظهر أن
فرعون لما قال : (
فمن ربكما ياموسى ) فذكر
موسى عليه السلام دليلا ظاهرا وبرهانا باهرا على هذا المطلوب فقال : (
ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) فخاف
فرعون أن يزيد في تقرير تلك الحجة فيظهر للناس صدقه وفساد طريق
فرعون ، فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام وأن يشغله بالحكايات فقال : (
فما بال القرون الأولى ) فلم يلتفت
موسى عليه السلام إلى ذلك الحديث بل قال : (
علمها عند ربي في كتاب ) ولا يتعلق غرضي بأحوالهم فلا أشتغل بها ، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول وإيراد الدلائل الباهرة على الوحدانية فقال : (
الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا ) وهذا الوجه هو المعتمد في صحة هذا النظم ، ثم ههنا مسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في قوله : (
علمها عند ربي في كتاب ) فإن العلم الذي يكون عند الرب كيف يكون في الكتاب ؟ وتحقيقه هو أن
علم الله تعالى صفته ، وصفة الشيء قائمة به ، فأما أن تكون صفة الشيء
[ ص: 59 ] حاصلة في كتاب فذاك غير معقول فذكروا فيه وجهين :
الأول : معناه أنه سبحانه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده لكون ما كتبه فيه يظهر للملائكة فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على
أنه تعالى عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة ، ولقائل أن يقول : قوله : (
في كتاب ) يوهم احتياجه سبحانه وتعالى في ذلك العلم إلى ذلك الكتاب وهذا ، وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أنه يوهمه في أول الأمر لا سيما للكافر ، فكيف يحسن ذكره مع معاند مثل فرعون في وقت الدعوة ؟
الوجه الثاني : أن تفسير ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها معلومة لله تعالى بحيث لا يزول شيء منها عن علمه ، وهذا التفسير مؤكد بقوله بعد ذلك : (
لا يضل ربي ولا ينسى ) .
المسألة الثانية : اختلفوا في قوله : (
لا يضل ربي ولا ينسى ) فقال بعضهم معنى اللفظين واحد أي لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عليه ، وهذا قول مجاهد والأكثرون على الفرق بينهما ، ثم ذكروا وجوها :
أحدها : وهو الأحسن ما قاله
القفال : لا يضل عن الأشياء ومعرفتها وما علم من ذلك لم ينسه ، فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالما بكل المعلومات ، واللفظ الثاني وهو قوله : (
ولا ينسى ) دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد وهو إشارة إلى نفي التغير .
وثانيها : قال
مقاتل : لا يخطئ ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه .
وثالثها : قال
الحسن لا يخطئ وقت البعث ولا ينساه .
ورابعها : قال
أبو عمرو أصل الضلال الغيبوبة ، والمعنى لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء .
وخامسها : قال
ابن جرير لا يخطئ في التدبير فيعتقد في غير الصواب كونه صوابا ، وإذا عرفه لا ينساه وهذه الوجوه متقاربة ، والتحقيق هو الأول .
المسألة الثالثة : أنه لما سأله عن الإله وقال : (
فمن ربكما ياموسى ) وكان ذلك مما سبيله الاستدلال أجاب بما هو الصواب بأوجز عبارة وأحسن معنى ، ولما سأله عن شأن القرون الأولى وكان ذلك مما سبيله الإخبار ولم يأته في ذلك خبر وكله إلى عالم الغيوب ، واعلم أن
موسى عليه السلام لما ذكر الدلالة الأولى وهي دلالة عامة تتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ذكر بعد ذلك دلائل خاصة وهي ثلاثة .
أولها : قوله تعالى : (
الذي جعل لكم الأرض مهدا ) وفيه أبحاث :
البحث الأول : قرأ
أهل الكوفة ههنا وفي الزخرف " مهدا " والباقون قرءوا ( مهادا ) فيهما قال
أبو عبيدة : الذي أختاره ( مهادا ) وهو اسم ، والمهد اسم الفعل ، وقال غيره : المهد الاسم ، والمهاد الجمع ، كالفرش والفراش ، أجاب
أبو عبيدة بأن الفراش اسم والفرش فعل ، وقال المفضل هما مصدران لمهد إذا وطأ له فراشا يقال : مهد مهدا ومهادا وفرش فرشا وفراشا .
البحث الثاني : قال صاحب " الكشاف " : (
الذي جعل ) مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو لأنه صفة لـ (
ربي ) ، أو منصوب على المدح ، وهذا من مظانه ومجازه ، واعلم أنه يجب الجزم بكونه خبرا لمبتدأ محذوف إذ لو حملناه على الوجهين الباقيين لزم كونه من كلام
موسى عليه السلام ، ولو كان كذلك لفسد النظم بسبب قوله : (
فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ) على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
البحث الثالث :
المراد من كون الأرض مهدا أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع ، وقد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :
[ ص: 60 ] (
الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء ) [ البقرة : 22 ] .
وثانيها : قوله تعالى : (
وسلك لكم فيها سبلا ) قال صاحب " الكشاف " : سلك من قوله : (
ما سلككم في سقر ) [ المدثر : 42 ] (
كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ) أي جعل لكم فيها سبلا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري .
وثالثها : قوله : (
وأنزل من السماء ماء ) والكلام فيه قد مر في سورة البقرة .