(
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى )
قوله تعالى : (
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا ياآدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى )
اعلم أن هذا هو المرة السادسة من قصة
آدم عليه السلام في القرآن : أولها في سورة البقرة ثم في الأعراف
[ ص: 107 ] ثم في الحجر ثم في الإسراء ثم في الكهف ، ثم ههنا . واعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها : أحدها : أنه تعالى لما قال : (
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق ) [طه : 99] ثم إنه عظم أمر القرآن وبالغ فيه ذكر هذه القصة إنجازا للوعد في قوله : (
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق ) . وثانيها : أنه لما قال : (
وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ) أردفه بقصة
آدم عليه السلام كأنه قال : إن
طاعة بني آدم للشيطان وتركهم التحفظ من وساوسه أمر قديم ، فإنا قد عهدنا إلى
آدم من قبل ، أي من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد وبالغنا في تنبيهه حيث قلنا : (
إن هذا عدو لك ولزوجك ) ثم إنه مع ذلك نسي وترك ذلك العهد ، فأمر البشر في ترك التحفظ من الشيطان أمر قديم . وثالثها : أنه لما قال
لمحمد صلى الله عليه وسلم : (
وقل رب زدني علما ) ذكر بعده قصة
آدم عليه السلام ، فإنه بعدما عهد الله إليه وبالغ في تجديد العهد وتحذيره من العدو نسي ، فقد دل ذلك على ضعف القوة البشرية عن التحفظ فيحتاج حينئذ إلى الاستعانة بربه في أن يوفقه لتحصيل العلم ويجنبه عن السهو والنسيان . ورابعها : أن
محمدا صلى الله عليه وسلم لما قيل له : (
ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ) دل على أنه كان في الجد في أمر الدين بحيث زاد على قدر الواجب ، فلما وصفه بالإفراط وصف
آدم بالتفريط في ذلك فإنه تساهل في ذلك ولم يتحفظ حتى نسي ، فوصف الأول بالتفريط والآخر بالإفراط ليعلم أن البشر لا ينفك عن نوع زلة . وخامسها : أن
محمدا صلى الله عليه وسلم لما قيل له : (
ولا تعجل ) ضاق قلبه وقال في نفسه : لولا أني أقدمت على ما لا ينبغي وإلا لما نهيت عنه فقيل له : إن كنت فعلت ما نهيت عنه فإنما فعلته حرصا منك على العبادة ، وحفظا لأداء الوحي وإن أباك أقدم على ما لا ينبغي للتساهل وترك التحفظ فكان أمرك أحسن من أمره ، أما قوله تعالى : (
ولقد عهدنا إلى آدم من قبل ) فلا شك أن المراد بالعهد أمر من الله تعالى أو نهي منه كما يقال في أوامر الملوك ووصاياهم أشار الملك إليه وعهد إليه ، قال المفسرون : عهدنا إليه أن لا يأكل من الشجرة ولا يقربها ، وفي قوله تعالى : (
من قبل ) وجوه ، أحدها : من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد في القرآن . وثانيها : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : من قبل أن يأكل من الشجرة عهدنا إليه أن لا يأكل منها . وثالثها : أي من قبل
محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، وهو قول
الحسن ، أما قوله : (
فنسي ) فقد تكلمنا فيه على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة ، ونعيد ههنا منه شيئا قليلا ، وفي النسيان قولان : أحدهما : المراد ما هو نقيض الذكر ، وإنما عوتب على ترك التحفظ والمبالغة في الضبط حتى تولد منه النسيان ، وكان
الحسن رحمه الله يقول : والله ما عصى قط إلا بنسيان . والثاني : أن المراد بالنسيان الترك وأنه ترك ما عهد إليه من الاحتراز عن الشجرة وأكل من ثمرتها ، وقرئ ( فنسي ) أي فنساه الشيطان ، وعلى هذا التقدير يحتمل أن يقال : أقدم على المعصية من غير تأويل ، وأن يقال : أقدم عليها مع التأويل ، والكلام فيه قد تقدم في سورة البقرة ، وأما قوله : (
ولم نجد له عزما ) ففيه أبحاث :
البحث الأول : الوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومنه ولم نجد له عزما وأن يكون نقيض العدم كأنه قال : وعدمنا له عزما .
البحث الثاني : العزم هو التصميم والتصلب ، ثم قوله : (
ولم نجد له عزما ) يحتمل ولم نجد له عزما على القيام على المعصية فيكون إلى المدح أقرب ، ويحتمل أن يكون المراد ولم نجد له عزما على ترك المعصية ، أو لم نجد له عزما على التحفظ والاحتراز عن الغفلة ، أو لم نجد له عزما على الاحتياط في كيفية الاجتهاد إذا قلنا : إنه عليه السلام إنما أخطأ بالاجتهاد . وأما قوله : (
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى )
[ ص: 108 ] فهذا يشتمل على مسائل : إحداها : أن المأمورين كل الملائكة أو بعضهم . وثانيتها : أنه ما معنى السجود . وثالثتها : أن إبليس هل كان من الملائكة أم لا ؟ وإن لم يكن فكيف صح الاستثناء وبأي شيء صار مأمورا بالسجود ؟ . ورابعتها : أن هذا يدل على أن
آدم أفضل من
محمد صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ . وخامستها : أن قوله في صفة إبليس أنه أبى كيف لزم الكفر من ذلك الإباء وأنه هل كان كافرا ابتداء أو كفر بسبب ذلك ، واعلم أن هذه المسائل مرت على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة ، أما قوله : (
فقلنا ياآدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ) ففيه سؤالات : الأول : ما سبب تلك العداوة ؟ الجواب من وجوه : أحدها : أن إبليس كان حسودا فلما رأى آثار نعم الله تعالى في حق
آدم عليه السلام حسده فصار عدوا له . وثانيها : أن
آدم كان شابا عالما لقوله : وعلم
آدم الأسماء كلها ، وإبليس كان شيخا جاهلا لأنه أثبت فضله بفضيلة أصله وذلك جهل ، والشيخ الجاهل أبدا يكون عدوا للشاب العالم . وثالثها : أن إبليس مخلوق من النار
وآدم مخلوق من الماء والتراب فبين أصليهما عداوة فبقيت تلك العداوة .
السؤال الثاني : لم قال : (
فلا يخرجنكما من الجنة ) مع أن المخرج لهما من الجنة هو الله تعالى ؟ الجواب : لما كان بوسوسته هو الذي فعل ما ترتب عليه الخروج صح ذلك .
السؤال الثالث : لم أسند إلى
آدم وحده فعل الشقاء دون حواء مع اشتراكهما في الفعل ؟ الجواب من وجهين : أحدهما : أن في ضمن شقاء الرجل وهو قيم أهله وأميرهم شقاءهم ، كما أن في ضمن سعادته سعادتهم ، فاختص الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على رعاية الفاصلة . الثاني : أريد بالشقاء التعب في طلب القوت وذلك على الرجل دون المرأة ، وروي أنه أهبط إلى
آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه . أما قوله : (
إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرئ وأنك بالفتح والكسر ووجه الفتح العطف على أن لا تجوع فيها ، فإن قيل : " أن " لا تدخل على أن فلا يقال : أن أن زيدا منطلق والواو نائبة عن أن وقائمة مقامها فلم أدخلت عليها ؟ قلنا : الواو لم توضع لتكون أبدا نائبة عن أن ، إنما هي نائبة عن كل عامل ، فلما لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصة كان لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع أن وأن .
المسألة الثانية : الشبع والري والكسوة والاكتنان في الظل هي الأقطاب التي يدور عليها أمر الإنسان ، فذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء له في الجنة من غير حاجة إلى الكسب والطلب وذكرها بلفظ النفي لأضدادها التي هي الجوع والعري والظمأ والضحى ليطرق سمعه شيئا من أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يبالغ في الاحتراز عن السبب الذي يوقعه فيها ، وهذه الأشياء كلها كأنها تفسير الشقاء المذكور في قوله : (
فتشقى ) .