المسألة السادسة : هذه الآية دالة على
فضل العلم ، فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه
آدم عليه السلام إلا بأن أظهر علمه ، فلو كان في الإمكان وجود شيء أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم ، واعلم أنه يدل على فضيلة العلم الكتاب والسنة والمنقول ، أما الكتاب فوجوه :
الأول : أن الله تعالى سمى العلم بالحكمة ، ثم إنه تعالى عظم أمر الحكمة ، وذلك يدل على عظم شأن العلم .
بيان أنه تعالى سمى العلم بالحكمة ما يروى عن مقاتل أنه قال : تفسير
الحكمة في القرآن على أربعة أوجه :
أحدها : مواعظ القرآن ، قال في البقرة : (
وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة ) [البقرة : 231] يعني مواعظ القرآن ، وفي النساء : (
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ) [النساء : 113] يعني المواعظ ، ومثلها في آل عمران .
وثانيها : الحكمة بمعنى الفهم والعلم قوله تعالى : (
وآتيناه الحكم صبيا ) [مريم : 12] وفي لقمان : (
ولقد آتينا لقمان الحكمة ) [لقمان : 12] يعني الفهم والعلم ، وفي الأنعام (
أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم ) [الأنعام : 89] .
وثالثها : الحكمة بمعنى النبوة في النساء : (
فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ) [النساء : 54] يعني النبوة وفي ص : (
وآتيناه الحكمة ) [ص : 20] يعني النبوة ، وفي البقرة : (
وآتاه الله الملك والحكمة ) [البقرة : 251] .
ورابعها : القرآن في النحل : (
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) [النحل : 125] وفي البقرة : (
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) [البقرة : 269] . وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ، ثم تفكر أن الله تعالى ما أعطى من العلم إلا القليل قال : (
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) [الإسراء : 85] وسمى الدنيا بأسرها قليلا (
قل متاع الدنيا قليل ) [النساء : 77] فما سماه قليلا لا يمكننا أن ندرك كميته فما ظنك بما سماه كثيرا ، ثم البرهان العقلي على قلة الدنيا وكثرة الحكمة أن الدنيا متناهي القدر متناهي العدد متناهي المدة ، والعلم لا نهاية لقدره وعدده ومدته ، ولا للسعادات الحاصلة منه ، وذلك ينبهك على فضيلة العلم .
الثاني : قوله تعالى : (
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) [الزمر : 9] وقد فرق بين سبع نفر
[ ص: 165 ] في كتابه ، فرق بين الخبيث والطيب فقال : (
قل لا يستوي الخبيث والطيب ) [المائدة : 100] يعني الحلال والحرام ، وفرق بين الأعمى والبصير ، فقال : (
قل هل يستوي الأعمى والبصير ) [الرعد : 16] وفرق بين النور والظلمة فقال : (
أم هل تستوي الظلمات والنور ) [الرعد : 16] وفرق بين الجنة والنار ، وبين الظل والحرور ، وإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذا من الفرق بين العالم والجاهل .
الثالث : قوله : (
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [النساء : 59] والمراد من أولي الأمر العلماء في أصح الأقوال ؛ لأن الملوك يجب عليهم
طاعة العلماء ولا ينعكس ، ثم انظر إلى هذه المرتبة فإنه تعالى ذكر العالم في موضعين من كتابه في المرتبة الثانية قال : (
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ) [آل عمران : 18] ، وقال : (
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [النساء : 59] ثم إنه سبحانه وتعالى زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الأولى في آيتين ، فقال تعالى : (
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) [آل عمران : 7] وقال : (
قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) [الرعد : 43] .
الرابع : (
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) [المجادلة : 11] واعلم أنه تعالى ذكر الدرجات لأربعة أصناف : أولها : للمؤمنين من أهل بدر قال : (
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) [الأنفال : 2] إلى قوله : (
لهم درجات عند ربهم ) [الأنفال : 4] .
والثانية : للمجاهدين قال : (
وفضل الله المجاهدين على القاعدين ) [النساء : 95] .
والثالثة : للصالحين قال : (
ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا ) [طه : 75] .
الرابعة : للعلماء ، قال : (
والذين أوتوا العلم درجات ) [المجادلة : 11] والله فضل
أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات ، وفضل المجاهدين على القاعدين بدرجات ، وفضل الصالحين على هؤلاء بدرجات ، ثم فضل العلماء على جميع الأصناف بدرجات ، فوجب أن يكون
العلماء أفضل الناس .
الخامس : قوله تعالى : (
إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [فاطر : 28] فإن
الله تعالى وصف العلماء في كتابه بخمس مناقب ، أحدها : الإيمان (
والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) [آل عمران : 7] .
وثانيها : التوحيد والشهادة (
شهد الله ) [آل عمران : 18] إلى قوله : (
وأولو العلم ) [آل عمران : 18] .
وثالثها : البكاء (
ويخرون للأذقان يبكون ) [الإسراء : 109] .
ورابعها : الخشوع (
إن الذين أوتوا العلم من قبله ) [الإسراء : 107] الآية .
وخامسها : الخشية (
إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [فاطر : 28] أما الأخبار فوجوه :
أحدها : روى
ثابت عن
أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين ، فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب عالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة ، وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ، ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ، ويمسي ويصبح مغفورا له ، وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء الله من النار " .
وثانيها : عن
أنس قال : قال عليه السلام : "
من طلب العلم لغير الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم ، فيكون لله ، ومن طلب العلم لله فهو كالصائم نهاره وكالقائم ليله ، وإن بابا من العلم يتعلمه الرجل خير من [ ص: 166 ] أن يكون له أبو قبيس ذهبا فينفقه في سبيل الله " .
وثالثها : عن
الحسن مرفوعا "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011367من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة " .
ورابعها :
nindex.php?page=showalam&ids=110أبو موسى الأشعري مرفوعا "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011368يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول : يا معشر العلماء ، إني لم أضع نوري فيكم إلا لعلمي بكم ، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم ، انطلقوا فقد غفرت لكم " .
وخامسها : قال عليه السلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011369معلم الخير إذا مات بكى عليه طير السماء ودواب الأرض وحيتان البحور " .
وسادسها :
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة مرفوعا "
من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء " .
وسابعها :
ابن عمر مرفوعا "
فضل العالم على العابد بسبعين درجة بين كل درجة عدو الفرس سبعين عاما ، وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فيزيلها ، والعابد يقبل على عبادته لا يتوجه ولا يتعرف لها " .
وثامنها :
الحسن مرفوعا ، قال عليه السلام : "
رحمة الله على خلفائي ، فقيل : من خلفاؤك يا رسول الله ؟ قال : الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله " .
وتاسعها : قال عليه السلام : "
من خرج يطلب بابا من العلم ليرد به باطلا إلى حق أو ضلالا إلى هدى كان عمله كعبادة أربعين عاما " .
وعاشرها : قال عليه السلام
لعلي حين بعثه إلى
اليمن "
لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما تطلع عليه الشمس أو تغرب " .
الحادي عشر :
ابن مسعود مرفوعا "
من طلب العلم ليحدث به الناس ابتغاء وجه الله أعطاه أجر سبعين نبيا " .
الثاني عشر :
عامر الجهني مرفوعا "
يؤتى بمداد طالب العلم ودم الشهيد يوم القيامة لا يفضل أحدهما على الآخر " وفي رواية
فيرجح مداد العلماء .
الثالث عشر :
nindex.php?page=showalam&ids=397أبو واقد الليثي : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16011378أنه عليه السلام بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر أما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس إليها ، وأما الآخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فإنه رجع وفر ، فلما فرغ عليه السلام من كلامه قال : أخبركم عن النفر الثلاثة ، أما الأول : فآوى إلى الله فآواه الله ، وأما الثاني : فاستحيا من الله فاستحيا الله منه ، وأما الثالث : فأعرض عن الله فأعرض الله عنه " رواه
مسلم .