[ ص: 165 ] (
ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين )
قوله تعالى : (
ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين )
اعلم أنه تعالى بعد ذكره لإنعامه على
إبراهيم وعلى
لوط بأن نجاهما إلى الأرض المباركة أتبعه بذكر غيره من النعم ، وإنما جمع بينهما ؛ لأن في كون
لوط معه مع ما كان بينهما من القرابة والشركة في النبوة مزيد إنعام ، ثم إنه سبحانه ذكر
النعم التي أفاضها على إبراهيم عليه السلام ، ثم النعم التي أفاضها على
لوط ، أما الأول فمن وجوه :
أحدها : (
ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ) واعلم أن النافلة العطية خاصة ، وكذلك النفل ، ويسمى الرجل الكثير العطايا نوفلا ، ثم للمفسرين هاهنا قولان :
الأول : أنه هاهنا مصدر من وهبنا له مصدر من غير لفظه ، ولا فرق بين ذلك وبين قوله : (
ووهبنا له ) هبة أي وهبناهما له عطية وفضلا من غير أن يكون جزاء مستحقا ، وهذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد وعطاء . والثاني : وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس وقتادة والفراء والزجاج : أن
إبراهيم عليه السلام لما سأل الله ولدا قال : (
رب هب لي من الصالحين ) [ الصافات : 100 ] فأجاب الله دعاءه : ووهب له
إسحاق وأعطاه
يعقوب من غير دعائه ، فكان ذلك : (
نافلة ) كالشيء المتطوع به من الآدميين فكأنه قال : (
ووهبنا له إسحاق ) إجابة لدعائه ؛ ووهبنا له (
ويعقوب نافلة ) على ما سأل كالصلاة النافلة التي هي زيادة على الفرض ؛ وعلى هذا النافلة
يعقوب خاصة .
والوجه الأول : أقرب ؛ لأنه تعالى جمع بينهما ، ثم ذكر قوله : (
نافلة ) فإذا صلح أن يكون وصفا لهما فهو أولى .
النعمة الثانية : قوله تعالى : (
وكلا جعلنا صالحين ) أي
وكلا من إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنبياء مرسلين ، هذا قول
الضحاك ، وقال آخرون : عاملين بطاعة الله عز وجل ، مجتنبين محارمه .
والوجه الثاني : أقرب ؛ لأن لفظ الصلاح يتناول الكل ؛ لأنه سبحانه قال بعد هذه الآية : (
وأوحينا إليهم فعل الخيرات ) فلو حملنا الصلاح على النبوة لزم التكرار ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن
أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ لأن قوله : (
وكلا جعلنا صالحين ) يدل على أن ذلك الصلاح من قبله ، أجاب
الجبائي بأنه لو كان كذلك لما وصفهم بكونهم صالحين ، وبكونهم أئمة ، وبكونهم عابدين ، ولما مدحهم بذلك ، ولما أثنى عليهم ، وإذا ثبت ذلك فلا بد من التأويل ، وهو من وجهين :
الأول : أن يكون المراد أنه سبحانه آتاهم من لطفه وتوفيقه ما صلحوا به .
والثاني : أن يكون المراد أنه سماهم بذلك كما يقال : زيد فسق فلانا وضلله وكفره ، إذا وصفه بذلك ، وكان مصدقا عند الناس ، وكما يقال في الحاكم : زكى فلانا وعدله وجرحه إذا حكم بذلك .
واعلم أن هذه الوجوه مختلة ، أما اعتمادهم على المدح والذم . فالجواب المعهود أن نعارضه بمسألتي الداعي والعلم ، وأما الحمل على اللطف فباطل ؛ لأن فعل الإلطاف عام في المكلفين ، فلا بد في هذا التخصيص من
[ ص: 166 ] مزيد فائدة ، وأيضا فلأن قوله : جعلته صالحا ، كقوله : جعلته متحركا ؛ فحمله على تحصيل شيء سوى الصلاح ترك للظاهر ، وأما الحمل على التسمية فهو أيضا مجاز ، أقصى ما في الباب أنه قد يصار إليه عند الضرورة في بعض المواضع ، وهاهنا لا ضرورة إلا أن يرجعوا مرة أخرى إلى فصل المدح والذم ، فحينئذ نرجع أيضا إلى مسألتي الداعي والعلم .
النعمة الثالثة : قوله تعالى : (
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ) وفيه قولان :
أحدهما : أي جعلناهم أئمة يدعون الناس إلى دين الله تعالى والخيرات بأمرنا وإذننا .
الثاني : قول
أبي مسلم أن هذه
الإمامة هي النبوة .
والأول أولى لئلا يلزم التكرار ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أمرين :
أحدهما : على خلق الأفعال بقوله : (
وجعلناهم أئمة ) وتقريره ما مضى .
والثاني : على أن
الدعوة إلى الحق والمنع عن الباطل لا يجوز إلا بأمر الله تعالى ؛ لأن الأمر لو لم يكن معتبرا لما كان في قوله بأمرنا فائدة .
النعمة الرابعة : قوله تعالى : (
وأوحينا إليهم فعل الخيرات ) وهذا يدل على أنه سبحانه خصهم بشرف النبوة ، وذلك من أعظم النعم على الأب ، قال
الزجاج : حذف الهاء من إقامة الصلاة ؛ لأن الإضافة عوض عنه ، وقال غيره : الإقام والإقامة مصدر ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11898أبو القاسم الأنصاري :
الصلاة أشرف العبادات البدنية ، وشرعت لذكر الله تعالى ،
والزكاة أشرف العبادات المالية ومجموعهما التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله .
واعلم أنه سبحانه وصفهم أولا بالصلاح ؛ لأنه أول مراتب السائرين إلى الله تعالى ، ثم ترقى فوصفهم بالإمامة . ثم ترقى فوصفهم بالنبوة والوحي . وإذا كان
الصلاح الذي هو العصمة أول مراتب النبوة دل ذلك على أن الأنبياء معصومون ، فإن المحروم عن أول المراتب أولى بأن يكون محروما عن النهاية ، ثم إنه سبحانه كما بين أصناف نعمه عليهم بين بعد ذلك اشتغالهم بعبوديته فقال : (
وكانوا لنا عابدين ) كأنه سبحانه وتعالى لما وفى بعهد الربوبية في الإحسان والإنعام فهم أيضا وفوا بعهد العبودية وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة .