قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما : حكم
سليمان بذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة ، وهاهنا أمور ولا بد من البحث عنها .
السؤال الأول : هل في الآية دلالة على أنهما عليهما السلام اختلفا في الحكم أم لا ؟ فإن
nindex.php?page=showalam&ids=13719أبا بكر الأصم قال : إنهما لم يختلفا البتة ، وأنه تعالى بين لهما الحكم لكنه بينه على لسان
سليمان عليه السلام . الجواب : الصواب أنهما اختلفا والدليل إجماع الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم على ما رويناه ، وأيضا فقد قال الله تعالى : (
وكنا لحكمهم شاهدين ) ثم قال : (
ففهمناها سليمان ) والفاء للتعقيب ، فوجب أن يكون ذلك الحكم سابقا على هذا التفهيم ، وذلك الحكم السابق إما أن يقال : اتفقا فيه أو اختلفا فيه ، فإن اتفقا فيه لم يبق لقوله : (
ففهمناها سليمان ) فائدة وإن اختلفا فيه فذلك هو المطلوب .
السؤال الثاني : سلمنا أنهما اختلفا في الحكم ، ولكن هل كان الحكمان صادرين عن النص أو عن
[ ص: 170 ] الاجتهاد؟ . الجواب : الأمران جائزان عندنا ، وزعم
الجبائي أنهما كانا صادرين عن النص ، ثم إنه تارة يبني ذلك على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء ، وأخرى على أن الاجتهاد وإن كان جائزا منهم في الجملة ، ولكنه غير جائز في هذه المسألة .
أما المأخذ الأول : فقد تكلمنا فيه في الجملة في كتابنا المسمى بالمحصول في الأصول ، ولنذكر هاهنا أصول الكلام من الطرفين ، احتج
الجبائي على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء عليهم السلام بأمور :
أحدها : قوله تعالى : (
قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) [ يونس : 15 ] وقوله تعالى : (
وما ينطق عن الهوى ) [ النجم : 3 ] .
وثانيها : أن الاجتهاد طريقه الظن ، وهو قادر على إدراكه يقينا ، فلا يجوز مصيره إلى الظن كالمعاين للقبلة ، لا يجوز له أن يجتهد .
ثالثها : أن
مخالفة الرسول توجب الكفر لقوله تعالى : (
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) [ النساء : 65 ] ومخالفة المظنون والمجتهدات لا توجب الكفر .
ورابعها : لو جاز أن يجتهد في الأحكام لكان لا يقف في شيء منها ، ولما وقف في مسألة الظهار واللعان إلى ورود الوحي دل على أن الاجتهاد غير جائز عليه .
وخامسها : أن الاجتهاد إنما يجوز المصير إليه عند فقد النص ، لكن فقدان النص في حق الرسول كالممتنع ؛ فوجب أن لا يجوز الاجتهاد منه .
وسادسها : لو جاز
الاجتهاد من الرسول لجاز أيضا من
جبريل عليه السلام وحينئذ لا يحصل الأمان بأن هذه الشرائع التي جاء بها أهي من نصوص الله تعالى أو من اجتهاد
جبريل ؟
والجواب عن الأول : أن قوله تعالى : (
قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) لا يدل على قولكم ؛ لأنه وارد في إبدال آية بآية ، لأنه عقيب قوله : (
قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ) [ يونس : 15 ] ولا مدخل للاجتهاد في ذلك . وأما قوله تعالى : (
وما ينطق عن الهوى ) فبعيد ؛ لأن من يجوز له الاجتهاد يقول : إن الذي أجتهد فيه هو عن وحي على الجملة ، وإن لم يكن كذلك على التفصيل ، وإن الآية واردة في الأداء عن الله تعالى لا في حكمه الذي يكون بالعقل .
والجواب عن الثاني : أن الله تعالى إذا قال له إذا غلب على ظنك كون الحكم معللا في الأصل بكذا ، ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فهاهنا الحكم مقطوع به ، والظن غير واقع فيه بل في طريقه .
والجواب عن الثالث : أنا لا نسلم أن مخالفة المجتهدات جائزة مطلقا بل جواز مخالفتها مشروط بصدورها عن غير المعصوم ، والدليل عليه أنه
يجوز على الأمة أن يجمعوا اجتهادا ثم يمتنع مخالفتهم وحال الرسول أوكد .
والجواب عن الرابع : لعله عليه السلام كان ممنوعا من الاجتهاد في بعض الأنواع أو كان مأذونا مطلقا لكنه لم يظهر له في تلك الصورة وجه الاجتهاد ، فلا جرم أنه توقف .
والجواب عن الخامس : لم لا يجوز أن يحبس النص عنه في بعض الصور؟ فحينئذ يحصل شرط جواز الاجتهاد .
والجواب عن السادس : أن هذا الاحتمال مدفوع بإجماع الأمة على خلافه .
فهذا هو الجواب عن شبه المنكرين ، والذي يدل على جواز الاجتهاد عليهم وجوه :
أحدها : أنه عليه السلام إذا غلب على ظنه أن الحكم في الأصل معلل بمعنى ثم علم أو ظن قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فلا بد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل ، وعنده مقدمة يقينية وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون .
وعند هذا ، إما أن يقدم على الفعل والترك معا ، وهو محال لاستحالة الجمع بين النقيضين ، أو يتركهما وهو محال لاستحالة الخلو عن النقيضين ، أو يرجح المرجوح على الراجح وهو باطل ببديهة العقل ، أو يرجح
[ ص: 171 ] الراجح على المرجوح وذلك هو العمل بالقياس . وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس ، وهي قائمة أيضا في حق الأنبياء عليهم السلام ، وهذا يتوجه على جواز
الاجتهاد من جبريل عليه السلام .
وثانيها : قوله تعالى : (
فاعتبروا ) [ الحشر : 2 ] أمر للكل بالاعتبار فوجب اندراج الرسول عليه السلام فيه لأنه إمام المعتبرين وأفضلهم .
وثالثها : أن الاستنباط أرفع درجات العلماء فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب . فإن قيل : هذا إنما يلزم لو لم تكن درجة أعلى من الاعتبار ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنه كان يستدرك الأحكام وحيا على سبيل اليقين ، فكان أرفع درجة من الاجتهاد الذي ليس قصاراه إلا الظن . قلنا : لا يمتنع أن لا يجد النص في بعض المواضع ، فلو لم يتمكن من الاجتهاد لكان أقل درجة من المجتهد الذي يمكنه أن يعرف ذلك الحكم من الاجتهاد ، وأيضا قد بينا أن الله تعالى لما أمره بالاجتهاد كان ذلك مفيدا للقطع بالحكم .
ورابعها : قال عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013246العلماء ورثة الأنبياء فوجب أن يثبت للأنبياء درجة الاجتهاد ليرث العلماء عنهم ذلك . هذا تمام القول في هذه المسألة .
وخامسها : أنه تعالى قال : (
عفا الله عنك لم أذنت لهم ) [ التوبة : 43 ] فذاك الإذن إن كان بإذن الله تعالى استحال أن يقول : لم أذنت لهم ، وإن كان بهوى النفس فهو غير جائز ، وإن كان بالاجتهاد فهو المطلوب .
المأخذ الثاني : قال
الجبائي : لو جوزنا
الاجتهاد من الأنبياء عليهم السلام ففي هذه المسألة يجب أن لا يجوز لوجوه :
أحدها : أن الذي وصل إلى صاحب الزرع من در الماشية ومن منافعها مجهول المقدار ، فكيف يجوز في الاجتهاد جعل أحدهما عوضا عن الآخر
وثانيها : أن اجتهاد
داود عليه السلام إن كان صوابا لزم أن لا ينقض ؛ لأن
الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ، وإن كان خطأ وجب أن يبين الله تعالى توبته كسائر ما حكاه عن الأنبياء عليهم السلام ، فلما مدحهما بقوله : (
وكلا آتينا حكما وعلما ) دل على أنه لم يقع الخطأ من داود .
وثالثها : لو حكم بالاجتهاد لكان الحاصل هناك ظنا لا علما لأن الله تعالى قال : (
وكلا آتينا حكما وعلما ) .
ورابعها : كيف يجوز أن يكون عن اجتهاد مع قوله : (
ففهمناها سليمان ) .
والجواب عن الأول : أن الجهالة في القدر لا تمنع من الاجتهاد كالجعالات وحكم المصراة .
وعن الثاني : لعله كان خطأ من باب الصغائر .
وعن الثالث : بينا أن من تمسك بالقياس فالظن واقع في طريق إثبات الحكم ، فأما الحكم فمقطوع به .
وعن الرابع : أنه إذا تأمل واجتهد فأداه اجتهاده إلى ما ذكرنا كان الله تعالى فهمه من حيث بين له طريق ذلك . فهذه جملة الكلام في بيان أنه لا يمتنع أن يكون اختلاف
داود وسليمان عليهما السلام في ذلك الحكم إنما كان بسبب الاجتهاد . وأما بيان أنه لا يمتنع أيضا أن يكون اختلافهما فيه بسبب النص فطريقه أن يقال : إن
داود عليه السلام كان مأمورا من قبل الله تعالى في هذه المسألة بالحكم الذي حكم به ، ثم إنه سبحانه نسخ ذلك بالوحي إلى
سليمان عليه السلام خاصة وأمره أن يعرف داود ذلك فصار ذلك الحكم حكمهما جميعا فقوله : (
ففهمناها سليمان ) أي أوحينا إليه فإن قيل : هذا باطل لوجهين :
الأول : لما أنزل الله تعالى الحكم الأول على
داود وجب أن ينزل نسخه أيضا على
داود لا على
سليمان .
الثاني : أن الله تعالى مدح كلا منهما على الفهم ، ولو كان ذلك على سبيل النص لم يكن في فهمه كثير مدح إنما المدح الكثير على قوة الخاطر والحذاقة في الاستنباط .