ثم إن الله تعالى ذكر بعد ذلك من
النعم التي خص بها داود عليه السلام أمرين :
الأول : قوله تعالى : (
وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ) وفيه مسائل :
[ ص: 173 ] المسألة الأولى : في تفسير هذا التسبيح وجهان :
أحدهما : أن الجبال كانت تسبح ثم ذكروا وجوها :
أحدها : قال
مقاتل : إذا ذكر
داود عليه السلام ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه .
وثانيها : قال
الكلبي : إذا سبح
داود أجابته الجبال .
وثالثها : قال
سليمان بن حيان : كان
داود عليه السلام إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطا واشتياقا .
القول الثاني : وهو اختيار بعض أصحاب المعاني أنه يحتمل أن يكون
تسبيح الجبال والطير بمثابة قوله : (
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] وتخصيص
داود عليه السلام بذلك إنما كان بسبب أنه عليه السلام كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقينا وتعظيما ، والقول الأول أقرب ؛ لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره .
وأما
المعتزلة فقالوا : لو حصل الكلام من الجبل لحصل إما بفعله أو بفعل الله تعالى فيه ؛ والأول : محال ؛ لأن بنية الجبل لا تحتمل الحياة والعلم والقدرة ، وما لا يكون حيا عالما قادرا يستحيل منه الفعل ، والثاني : أيضا محال ؛ لأن المتكلم عندهم من كان فاعلا للكلام ، لا من كان محلا للكلام ، فلو كان فاعل ذلك الكلام هو الله تعالى لكان المتكلم هو الله تعالى لا الجبل ، فثبت أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره ، فعند هذا قالوا في : (
وسخرنا مع داود الجبال يسبحن ) ومثله قوله تعالى : (
ياجبال أوبي معه ) [ سبأ : 10 ] معناه تصرفي معه وسيري بأمره ، ويسبحن من السبح الذي السباحة خرج اللفظ فيه على التكثير ، ولو لم يقصد التكثير لقيل : يسبحن ، فلما كثر قيل : يسبحن معه ، أي سيري وهو كقوله : (
إن لك في النهار سبحا طويلا ) [ المزمل : 7 ] أي تصرفا ومذهبا . إذا ثبت هذا فنقول : إن سيرها هو التسبيح لدلالته على قدرة الله تعالى وعلى سائر ما تنزه عنه ، واعلم أن مدار هذا القول على أن بنية الجبل لا تقبل الحياة ، وهذا ممنوع ، وعلى أن التكلم من فعل الله ، وهو أيضا ممنوع .
المسألة الثانية : أما الطير فلا امتناع في أن يصدر عنها الكلام ، ولكن أجمعت الأمة على أن المكلفين إما الجن أو الإنس أو الملائكة فيمتنع فيها أن تبلغ في العقل إلى درجة التكليف ، بل تكون على حالة كحال الطفل في أن يؤمر وينهى ، وإن لم يكن مكلفا فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق ، وأيضا فيه دلالة على قدرة الله تعالى وعلى تنزهه عما لا يجوز ؛ فيكون القول فيه كالقول في الجبال .
المسألة الثالثة : قال صاحب " الكشاف " : يسبحن حال بمعنى مسبحات أو استئناف ، كأن قائلا قال : كيف سخرهن ؟ فقال : يسبحن . "والطير" إما معطوف على الجبال وإما مفعول معه . فإن قلت : لم قدمت الجبال على الطير ؟ قلت : لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ؛ لأنها جماد ، والطير حيوان ناطق .
أما قوله : (
وكنا فاعلين ) فالمعنى أنا قادرون على أن نفعل هذا ، وإن كان عجبا عندكم ، وقيل : نفعل ذلك بالأنبياء عليهم السلام .
الإنعام الثالث : قوله تعالى : (
وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اللبوس اللباس ، قال : البس لكل حالة لبوسها .
المسألة الثانية : " لتحصنكم " قرئ بالنون والياء والتاء وتخفيف الصاد وتشديدها ، فالنون لله عز وجل ، والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع ، والياء لله تعالى أو
لداود أو للبوس .
[ ص: 174 ] المسألة الثالثة : قال
قتادة :
أول من صنع الدرع داود عليه السلام ، وإنما كانت صفائح قبله ، فهو أول من سردها واتخذها حلقا ، ذكر
الحسن أن
لقمان الحكيم عليه السلام حضره وهو يعمل الدرع ، فأراد أن يسأل عما يفعل ثم سكت حتى فرغ منها ولبسها على نفسه ، فقال :
الصمت حكمة وقليل فاعله ؛ قالوا : إن الله تعالى ألان الحديد له يعمل منه بغير نار كأنه طين .
المسألة الرابعة : البأس هاهنا الحرب ، وإن وقع على السوء كله ، والمعنى ليمنعكم ويحرسكم من بأسكم ، أي من الجرح والقتل والسيف والسهم والرمح .
المسألة الخامسة : فيه دلالة على أن أول من عمل الدرع
داود ثم تعلم الناس منه ، فتوارث الناس عنه ذلك ، فعمت النعمة بها كل المحاربين من الخلق إلى آخر الدهر ، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة فقال : (
فهل أنتم شاكرون ) أي اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه الصنعة ، واعلم أنه سبحانه لما ذكر النعم التي خص
داود بها ذكر بعده
النعم التي خص بها سليمان عليه السلام ، وقال
قتادة : ورث الله تعالى
سليمان من
داود ملكه ونبوته وزاده عليه أمرين سخر له الريح والشياطين .
الإنعام الأول : قوله تعالى : (
ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره ) أي جعلناها طائعة منقادة له ، بمعنى أنه إن أرادها عاصفة كانت عاصفة ، وإن أرادها لينة كانت لينة ، والله تعالى مسخرها في الحالتين ، فإن قيل : العاصف الشديدة الهبوب ، وقد وصفها الله تعالى بالرخاوة في قوله : (
رخاء حيث أصاب ) [ ص : 36 ] فكيف يكون الجمع بينهما ؟ والجواب : من وجهين :
الأول : أنها كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم ، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال : (
غدوها شهر ورواحها شهر ) [ سبأ : 12 ] وكانت جامعة بين الأمرين رخاء في نفسها وعاصفة في عملها مع طاعتها
لسليمان عليه السلام ، وهبوبها على حسب ما يريد ويحكم آية إلى آية ، ومعجزة إلى معجزة .
الثاني : أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفا ، لأجل هبوبها على حكم إرادته .
المسألة السادسة : قرئ " الريح " و"الرياح" بالرفع والنصب فيهما ، فالرفع على الابتداء ، والنصب للعطف على الجبال ، فإن قيل : قال في
داود : (
وسخرنا مع داود الجبال ) وقال في حق
سليمان : (
ولسليمان الريح ) فذكره في حق
داود عليه السلام بكلمة مع وفي حق
سليمان عليه السلام باللام وراعى هذا الترتيب أيضا في قوله : (
ياجبال أوبي معه والطير ) [ سبأ : 10 ] وقال : (
فسخرنا له الريح تجري بأمره ) [ ص : 36 ] فما الفائدة في تخصيص
داود عليه السلام بلفظ مع ، وسليمان باللام ؟ قلنا : يحتمل أن الجبل لما اشتغل بالتسبيح حصل له نوع شرف ، فما أضيف إليه بلام التمليك ، أما الريح فلم يصدر عنه إلا ما يجري مجرى الخدمة ، فلا جرم أضيف إلى سليمان بلام التمليك ، وهذا إقناعي .