أما قوله : (
إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) أي إلى المضي إلى
بيت المقدس ، قال
الكلبي : كانت تسير من
إصطخر إلى
الشام يركب عليها
سليمان وأصحابه .
أما قوله : (
وكنا بكل شيء عالمين ) أي لعلمنا بالأشياء صح منا أن ندبر هذا التدبير في رسلنا ، وفي
[ ص: 175 ] خلقنا ، وأن نفعل هذه المعجزات القاهرة .
الإنعام الثاني : قوله تعالى : (
ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد أنهم يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن ، وبناء المدن والقصور ، واختراع الصنائع العجيبة ؛ كما قال : (
يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان ) [سبأ : 13 ] وأما الصناعات فكاتخاذ الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون .
المسألة الثانية : قوله : (
ومن الشياطين من يغوصون له ) يعني
وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له ، فيكون في موضع النصب نسقا على الريح ؛ قال
الزجاج : ويجوز أن يكون في موضع رفع من وجهين :
أحدهما : النسق على الريح ، وأن يكون المعنى :
ولسليمان الريح ، وله من يغوصون له من الشياطين ، ويجوز أن يكون رفعا على الابتداء ، ويكون " له " هو الخبر .
المسألة الثالثة : يحتمل أن يكون من يغوص منهم هو الذي يعمل سائر الأعمال ، ويحتمل أنهم فرقة أخرى ، ويكون الكل داخلين في لفظة من ، وإن كان الأول هو الأقرب .
المسألة الرابعة : ليس في الظاهر إلا أنه سخرهم ، لكنه قد روي أنه تعالى سخر كفارهم دون المؤمنين ، وهو الأقرب من وجهين :
أحدهما : إطلاق لفظ الشياطين .
والثاني : قوله : (
وكنا لهم حافظين ) فإن المؤمن إذا سخر في أمر لا يجب أن يحفظ لئلا يفسد ، وإنما يجب ذلك في الكافر .
المسألة الخامسة : في تفسير قوله : (
وكنا لهم حافظين ) وجوه :
أحدها : أنه تعالى وكل بهم جمعا من الملائكة ، أو جمعا من مؤمني الجن .
وثانيها : سخرهم الله تعالى بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم من مخالفته .
وثالثها : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما : يريد وسلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء ، فإن قيل : وعن أي شيء كانوا محفوظين ؟ قلنا : فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه تعالى كان يحفظهم عليه لئلا يذهبوا ويتركوه .
وثانيها : قال
الكلبي : كان يحفظهم من أن يهيجوا أحدا في زمانه .
وثالثها : كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا ، فكان دأبهم أنهم يعملون بالنهار ثم يفسدونه في الليل .
المسألة السادسة : سأل
الجبائي نفسه ، وقال : كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل ، وإنما يمكنهم الوسوسة ؟ وأجاب بأنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم ، وزاد في عظمهم ؛ ليكون ذلك معجزا
لسليمان عليه السلام ، فلما مات
سليمان ردهم الله إلى الخلقة الأولى ؛ لأنه لو بقاهم على الخلقة الثانية لصار شبهة على الناس ، ولو ادعى متنبئ النبوة وجعله دلالة ، لكان كمعجزات الرسل ؛ فلذا ردهم إلى خلقتهم الأولى ، واعلم أن هذا الكلام ساقط من وجوه :
أحدها : لم قلت : إن الجن من الأجسام ؟ ولم لا يجوز وجود محدث ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ، ويكون الجن منهم ؟ فإن قلت : لو كان الأمر كذلك لكان مثلا للباري تعالى؟ ، قلت : هذا ضعيف ؛ لأن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فكيف اللوازم السلبية ، سلمنا أنه جسم ، لكن لا يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف ، وكلامه بناء على البنية شرط وليس في يده إلا الاستقراء الضعيف ؛ سلمنا أنه لا
[ ص: 176 ] بد من تكثيف أجسامهم لكن لم قلت : بأنه لا بد من ردها إلى الخلقة الأولى بعد موت
سليمان عليه السلام ، فإن قال : لئلا يفضي إلى التلبيس ؛ قلنا : التلبيس غير لازم ؛ لأن المتنبي إذا جعل ذلك معجزة لنفسه ، فللمدعي أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : إن قوة أجسادهم كانت معجزة لنبي آخر قبلك ، ومع قيام هذا الاحتمال لا يتمكن المتنبي من الاستدلال به ، واعلم أن أجسام هذا العالم إما كثيفة أو لطيفة ، أما الكثيف فأكثف الأجسام الحجارة والحديد ، وقد جعلهما الله تعالى معجزة
لداود عليه السلام ، فأنطق الحجر ولين الحديد ، وكل واحد منهما كما يدل على التوحيد والنبوة يدل على صحة الحشر ؛ لأنه لما قدر على إحياء الحجارة فأي بعد في إحياء العظام الرميمة ، وإذا قدر على أن يجعل في إصبع
داود عليه السلام قوة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة ، فأي بعد في أن يجعل التراب اليابس جسما حيوانيا ، وألطف الأشياء في هذا العالم الهواء والنار ، وقد جعلهما الله معجزة
لسليمان عليه السلام ، أما الهواء فقوله تعالى : (
فسخرنا له الريح ) [ ص : 36 ] وأما النار فلأن الشياطين مخلوقون منها ، وقد سخرهم الله تعالى ، فكان يأمرهم بالغوص في المياه , والنار تنطفئ بالماء ، وهم ما كان يضرهم ذلك ، وذلك يدل على
قدرته على إظهار الضد من الضد .