(
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون )
قوله تعالى : (
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون )
اعلم أن قوله : (
إنكم ) خطاب لمشركي
مكة وعبدة الأوثان .
أما قوله تعالى : (
وما تعبدون من دون الله )
روي أنه عليه السلام دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفحمه ثم تلا عليهم : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) الآية فأقبل عبد الله بن الزبعرى فرآهم يتهامسون فقال : فيم خوضكم ؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عبد الله : أما والله لو وجدته لخصمته ؛ فدعوه ، فقال ابن الزبعرى أأنت قلت ذلك ؟ قال نعم ، قال : قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة ، ثم روي في ذلك روايتان :
إحداهما : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكت ولم يجب فضحك القوم فنزل قوله تعالى : (
ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ) [ الزخرف : 58 ] ونزل في
عيسى والملائكة : (
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ) [ الأنبياء : 101 ] الآية ، هذا قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
الرواية الثانية : أنه عليه السلام أجاب ، وقال : بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك ، فأنزل الله سبحانه : (
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ) [ الأنبياء : 101 ] الآية ؛ يعني
عزيرا والمسيح والملائكة ، واعلم أن سؤال
ابن الزبعرى ساقط من وجوه :
أحدها : أن قوله : (
إنكم ) خطاب مشافهة ، وكان ذلك مع مشركي
مكة ، وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط .
وثانيها : أنه لم يقل : ومن تعبدون ؛ بل قال : ما تعبدون ، وكلمة " ما " لا تتناول العقلاء .
أما قوله تعالى : (
والسماء وما بناها ) [ الشمس : 5 ] ، وقوله : (
لا أعبد ما تعبدون ) [ الكافرون : 2 ] فهو محمول على الشيء ، ونظيره هاهنا أن يقال : إنكم والشيء الذي تعبدون من دون الله لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم ؛ فلا يتوجه سؤال
ابن الزبعرى .
وثالثها : أن من عبد الملائكة لا يدعي أنهم آلهة ، وقال سبحانه : (
لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ) .
ورابعها : هب أنه ثبت العموم لكنه مخصوص
بالدلائل العقلية والسمعية في حق الملائكة والمسيح وعزير لبراءتهم من الذنوب والمعاصي ، ووعد الله إياهم بكل مكرمة ،
[ ص: 194 ] وهذا هو المراد من قوله سبحانه : (
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) [ الأنبياء : 101 ] .
وخامسها : الجواب الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أنهم كانوا يعبدون الشياطين ، فإن قيل : الشياطين عقلاء ، ولفظ " ما " لا يتناولهم ، فكيف قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك ؟ قلنا : كأنه عليه السلام قال : لو ثبت لكم أنه يتناول العقلاء فسؤالكم أيضا غير لازم من هذا الوجه . وأما ما قيل : إنه عليه السلام سكت عند إيراد
ابن الزبعرى هذا السؤال فهو خطأ ؛ لأنه لا أقل من أنه عليه السلام كان يتنبه لهذه الأجوبة التي ذكرها المفسرون ؛ لأنه عليه السلام كان أعلم منهم باللغة وبتفسير القرآن ، فكيف يجوز أن تظهر هذه الأجوبة لغيره ، ولا يظهر شيء منها له عليه السلام ؛ فإن قيل : جوزوا أن يسكت عليه السلام انتظارا للبيان قلنا : لما كان البيان حاضرا معه لم يجز عليه السكوت لكي لا يتوهم فيه الانقطاع عن سؤالهم ، ومن الناس من أجاب عن سؤال
ابن الزبعرى فقال : إن الله تعالى يصور لهم في النار ملكا على صورة من عبدوه ، وحينئذ تبقى الآية على ظاهرها ، واعلم أن هذا ضعيف من وجهين :
الأول : أن القوم لم يعبدوا تلك الصورة وإنما عبدوا شيئا آخر لم يحصل معهم في النار .
الثاني : وهو أن
الملك لا يصير حصب جهنم في الحقيقة ، وإن صح أن يدخلها ، فإن خزنة النار يدخلونها مع أنهم ليسوا حصب جهنم .
المسألة الثانية : الحكمة في أنهم قرنوا بآلهتهم أمورا :
أحدها : أنهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غم وحسرة ؛ لأنهم ما وقعوا في ذلك العذاب إلا بسببهم ،
والنظر إلى وجه العدو باب من العذاب .
وثانيها : أن القوم قدروا أنهم يشفعون لهم في الآخرة في دفع العذاب ، فإذا وجدوا الأمر على عكس ما قدروا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم .
وثالثها : أن إلقاءها في النار يجري مجرى الاستهزاء بعبادها .
ورابعها : قيل : ما كان منها حجرا أو حديدا يحمى ويلزق بعبادها ، وما كان خشبا يجعل جمرة يعذب بها صاحبها .
أما قوله تعالى : (
حصب جهنم ) فالمراد يقذفون في نار جهنم ؛ فشبههم بالحصباء التي يرمى بها الشيء ، فلما رمى بها كرمي الحصباء ، جعلهم حصب جهنم تشبيها ، قال صاحب " الكشاف " : الحصب الرمي ، وقرئ بسكون الصاد وصفا بالمصدر ، وقرئ " حطب " و"حضب" بالضاد المنقوطة متحركا وساكنا .
أما قوله تعالى : (
أنتم لها واردون ) فإنما جاز مجيء اللام في " لها " لتقدمها على الفعل ؛ تقول : أنت لزيد ضارب ؛ كقوله تعالى : (
والذين هم لأماناتهم وعهدهم ) [ المؤمنون : 8 ] (
والذين هم لفروجهم ) [ المؤمنون : 5 ] أي أنتم فيها داخلون ، والمعنى أنه لا بد وأن تردوها ولا معدل لكم عن دخولها .
أما قوله تعالى : (
لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ) فاعلم أن قوله : (
إنكم وما تعبدون من دون الله ) بالأصنام أليق لدخول لفظة " ما " ، وهذا الكلام بالشياطين أليق لقوله : " هؤلاء " ويحتمل أن يريد الشياطين والأصنام ؛ فيغلب بأن يذكروا بعبارة العقلاء ، ونبه الله تعالى على أن من يرمى إلى النار لا يمكن أن يكون إلها . وهاهنا سؤال : وهو أن قوله : (
لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ) لكنهم وردوها فهم ليسوا آلهة حجة ، وهذه الحجة إما أن يكون ذكرها لنفسه أو لغيره ، فإن ذكرها لنفسه فلا فائدة فيه ؛ لأنه كان عالما بأنها ليست آلهة
[ ص: 195 ] وإن ذكرها لغيره ، فإما أن يذكرها لمن يصدق بنبوته أو لمن يكذب بنبوته ، فإن ذكرها لمن صدق بنبوته فلا حاجة إلى هذه الحجة ؛ لأن كل من صدق بنبوته لم يقل بإلهية هذه الأصنام ، وإن ذكرها لمن يكذب بنبوته ، فذلك المكذب لا يسلم أن تلك الآلهة يردون النار ويكذبونه في ذلك ، فكان ذكره هذه الحجة ضائعا كيف كان ، وأيضا فالقائلون بإلهيتها لم يعتقدوا فيها كونها مدبرة للعالم وإلا لكانوا مجانين ، بل اعتقدوا فيها كونها تماثيل الكواكب أو صور الشفعاء ، وذلك لا يمنع من دخولها في النار . وأجيب عن ذلك بأن المفسرين قالوا : المعنى لو كان هؤلاء - يعني الأصنام - آلهة على الحقيقة ما وردوها ؛ أي ما دخل عابدوها النار ، ثم إنه سبحانه وصف ذلك العذاب بأمور ثلاثة :
أحدها : الخلود ، فقال : (
وكل فيها خالدون ) يعني العابدين والمعبودين ، وهو تفسير لقوله : (
إنكم وما تعبدون من دون الله ) .
وثانيها قوله : (
لهم فيها زفير ) قال
الحسن : الزفير هو اللهيب ، أي يرتفعون بسبب لهب النار ، حتى إذا ارتفعوا ورجوا الخروج ضربوا بمقامع الحديد فهووا إلى أسفلها سبعين خريفا ؛ قال
الخليل : الزفير أن يملأ الرجل صدره غما ثم يتنفس ، قال
أبو مسلم : وقوله : " لهم " عام لكل معذب ، فنقول : لهم زفير من شدة ما ينالهم ، والضمير في قوله : (
وهم فيها لا يسمعون ) يرجع إلى المعبودين ، أي لا يسمعون صراخهم وشكواهم ؛ ومعناه : أنهم لا يغيثونهم ، وشبهه سمع الله لمن حمده أي أجاب الله دعاءه .
وثالثها : قوله : (
وهم فيها لا يسمعون ) وفيه وجهان :
أحدهما : أنه محمول على الأصنام خاصة على ما حكيناه عن
أبي مسلم .
والثاني : أنها محمولة على الكفار ، ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن
الكفار يحشرون صما كما يحشرون عميا زيادة في عذابهم .
وثانيها : أنهم لا يسمعون ما ينفعهم ؛ لأنهم إنما يسمعون أصوات المعذبين أو كلام من يتولى تعذيبهم من الملائكة .
وثالثها : قال
ابن مسعود : إن الكفار يجعلون في توابيت من نار ، والتوابيت في توابيت أخر ؛ فلذلك لا يسمعون شيئا ، والأول ضعيف ؛ لأن أهل النار يسمعون كلام أهل الجنة ، فلذلك يستغيثون بهم على ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف .