أما قوله تعالى : (
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه
عليه السلام كان رحمة في الدين وفي الدنيا ؛ أما في الدين فلأنه عليه السلام بعث والناس في جاهلية وضلالة ، وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم ؛ لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم ، فبعث الله تعالى
محمدا - صلى الله عليه وسلم - حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب ، فدعاهم إلى الحق ، وبين لهم سبيل الثواب ، وشرع لهم الأحكام ، وميز الحلال من الحرام ، ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق ، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار ، وكان التوفيق قرينا له ؛ قال الله تعالى : (
قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ) [ فصلت : 44 ] إلى قوله : (
وهو عليهم عمى ) [فصلت : 44 ] .
وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب ونصروا ببركة دينه . فإن قيل :
كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال ؟ قلنا : الجواب من وجوه :
أحدها : إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر ، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم ، ثم هو منتقم من العصاة . وقال : (
ونزلنا من السماء ماء مباركا ) [ ق : 9 ] ثم قد يكون سببا للفساد .
وثانيها : أن كل نبي قبل نبينا كان إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق ، وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة ؛ قال تعالى : (
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) [ الأنفال : 33 ] لا يقال : أليس أنه تعالى قال : (
قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم )
[ ص: 200 ] [ التوبة : 14 ] ؛ وقال تعالى : (
ليعذب الله المنافقين والمنافقات ) [ الأحزاب : 73 ] لأنا نقول : تخصيص العام لا يقدح فيه .
وثالثها : أنه عليه السلام كان في نهاية حسن الخلق ، قال تعالى : (
وإنك لعلى خلق عظيم ) [ القلم : 4 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة رضي الله عنه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013259قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ادع على المشركين ، قال : إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذابا وقال في رواية
حذيفة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013260إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر ، فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها اللهم عليه صلاة يوم القيامة .
ورابعها : قال
nindex.php?page=showalam&ids=16327عبد الرحمن بن زيد : (
إلا رحمة للعالمين ) يعني المؤمنين خاصة ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11898الإمام أبو القاسم الأنصاري : والقولان يرجعان إلى معنى واحد ، لما بينا أنه كان رحمة للكل لو تدبروا في آيات الله وآيات رسوله ، فأما من أعرض واستكبر ، فإنما وقع في المحنة من قبل نفسه كما قال : (
وهو عليهم عمى ) [ فصلت: 44 ] .
المسألة الثانية : قالت
المعتزلة : لو كان
الله تعالى أراد من الكافرين الكفر ولم يرد منهم القبول من الرسول ، بل ما أراد منهم إلا الرد عليه وخلق ذلك فيهم ولم يخلقهم إلا كذلك كما يقوله
أهل السنة ، لوجب أن يكون إرساله نقمة وعذابا عليهم لا رحمة ، وذلك على خلاف هذا النص ، لا يقال : إن
رسالته عليه السلام رحمة للكفار من حيث لم يعجل عذابهم في الدنيا ، كما عجل عذاب سائر الأمم ؛ لأنا نقول : إن كونه رحمة للجميع على حد واحد ، وما ذكرتموه للكفار فهو حاصل للمؤمنين أيضا ، فإذا يجب أن يكون رحمة للكافرين من الوجه الذي صار رحمة للمؤمنين ، وأيضا فإن الذي ذكروه من نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - كحصولها بعده ، بل كانت نعمهم في الدنيا قبل بعثته أعظم ؛ لأن بعد بعثته نزل بهم الغم والخوف منه ، ثم أمر بالجهاد الذي فني أكثرهم فيه ، فلا يجوز أن يكون هذا هو المراد .
والجواب : أن نقول : لما علم الله سبحانه وتعالى أن
أبا لهب لا يؤمن البتة ، وأخبر عنه أنه لا يؤمن ، كان أمره إياه بالإيمان أمرا يقلب علمه جهلا ، وخبره الصدق كذبا وذلك محال ، فكان قد أمره بالمحال ، وإن كانت البعثة مع هذا القول رحمة ، فلم لا يجوز أن يقال :
البعثة رحمة مع أنه خلق الكفر في الكافر ؟ ولأن قدرة الكافر إن لم تصلح إلا للكفر فقط فالسؤال عليهم لازم ، وإن كانت صالحة للضدين توقف للترجيح على مرجح من قبل الله تعالى ، قطعا للتسلسل . وحينئذ يعود الإلزام ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون رحمة للكافر بمعنى تأخير عذاب الاستئصال عنه ؟ قوله : أولا لما كان رحمة للجميع على حد واحد ، وجب أن يكون رحمة للكفار من الوجه الذي كان رحمة للمؤمنين . قلنا : ليس في الآية أنه عليه السلام رحمة للكل باعتبار واحد أو باعتبارين مختلفين ، فدعواك بكون الوجه واحدا تحكم , قوله : نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار من قبل ، قلنا : نعم ، ولكنه عليه السلام لكونه رحمة للمؤمنين لما بعث حصل الخوف للكفار من نزول العذاب ، فلما اندفع ذلك عنهم بسبب حضوره كان ذلك رحمة في حق الكفار .
المسألة الثالثة : تمسكوا بهذه الآية في أنه أفضل من الملائكة ، قالوا : لأن الملائكة من العالمين ، فوجب بحكم هذه الآية أن يكون عليه السلام رحمة للملائكة ، فوجب أن يكون أفضل منهم ، والجواب : أنه معارض بقوله تعالى في حق الملائكة : (
ويستغفرون للذين آمنوا ) [ غافر : 7 ] وذلك رحمة منهم في حق المؤمنين ، والرسول عليه السلام داخل في المؤمنين ، وكذا قوله تعالى : (
إن الله وملائكته يصلون على النبي ) [ الأحزاب : 56 ] .