واعلم أنه سبحانه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين :
البحث الأول : كيفية إزالتها ، وذلك هو قوله تعالى : (
فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) فالمراد إزالته وإزالة تأثيره فهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام . أما قوله : (
ثم يحكم الله آياته ) فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن ، وإلا فيحمل على أحكام الأدلة التي لا يجوز فيها الغلط .
البحث الثاني : أنه تعالى بين أثر تلك الوسوسة ، ثم إنه سبحانه شرح أثرها في حق الكفار أولا ، ثم في حق المؤمنين ثانيا ، أما في حق الكفار فهو قوله : (
ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة ) والمراد به تشديد التبعيد ؛ لأن عندما يظهر من الرسول صلى الله عليه وسلم الاشتباه في القرآن سهوا يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد ، وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صوابا .
أما قوله : (
للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ) ففيه سؤالان :
السؤال الأول : لم قال : (
فتنة للذين في قلوبهم مرض ) ؟ ولم خصهم بذلك الجواب ؟ لأنهم مع
[ ص: 49 ] كفرهم يحتاجون إلى ذلك التدبر ، وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر .
السؤال الثاني : ما
مرض القلب ؟ الجواب : أنه الشك والشبهة وهم المنافقون كما قال : (
في قلوبهم مرض ) وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على جهلهم ظاهرا وباطنا .
أما قوله تعالى : (
وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ) يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين فأصله وإنهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر قضاء عليهم بالظلم والشقاق والمشاقة والمعاداة والمباعدة سواء ، وأما في حق المؤمنين فهو قوله : (
وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك ) وفي الكناية ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها عائدة إلى نسخ ما ألقاه الشيطان ، عن
الكلبي . وثانيها : أنه الحق أي القرآن عن
مقاتل . وثالثها : أن تمكن الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق ، أما على قولنا فلأنه سبحانه وتعالى أي شيء فعل فقد تصرف في ملكه وملكه - بضم الميم وكسرها - فكان حقا ، وأما على قول
المعتزلة فلأنه سبحانه حكيم فتكون كل أفعاله صوابا فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم أي تخضع وتسكن لعلمهم بأن المقضي كائن ، وكل ميسر لما خلقه له ، (
وإن الله لهادي الذين آمنوا ) إلى أن يتأولوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبوا ما أشكل منه من المجمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة ، وقرئ : " لهاد الذين آمنوا " بالتنوين ، ولما بين سبحانه حال الكافرين أولا ، ثم حال المؤمنين ثانيا عاد إلى شرح حال الكافرين مرة أخرى فقال : (
ولا يزال الذين كفروا في مرية منه ) أي من القرآن أو من الرسول ، وذلك يدل على أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن هذا وصفه .
أما قوله تعالى : (
حتى تأتيهم الساعة بغتة ) أي فجأة من دون أن يشعروا ثم جعل الساعة غاية لكفرهم ، وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء . واختلف في المراد باليوم العقيم وفيه قولان : أحدهما : أنه يوم
بدر ، وإنما
وصف يوم الحرب بالعقيم لوجوه أربعة :
أحدها : أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن . وثانيها : أن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز . وثالثها : هو الذي لا خير فيه ، يقال : ريح عقيم إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا . ورابعها : أنه لا مثل له في عظم أمره ، وذلك لقتال الملائكة فيه . القول الثاني : أنه يوم القيامة ، وإنما وصف بالعقيم لوجوه :
أحدها : أنهم لا يرون فيه خيرا ، وثانيها : أنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على تعطل الولادة . وثالثها : أن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم فكيف يحصل الحمل فيه ، وهذا القول أولى ؛ لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى : (
ولا يزال الذين كفروا ) ويكون المراد يوم بدر ؛ لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم
بدر ، فإن قيل لما ذكر الساعة : فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار ؛ قلنا : ليس كذلك ؛ لأن الساعة من مقدمات القيامة ، واليوم العقيم هو نفس ذلك اليوم ، وعلى أن الأمر لو كان كما قاله لم يكن تكرارا ؛ لأن في الأول ذكر الساعة ، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم ، ويحتمل أن يكون المراد بالساعة وقت موت كل أحد ، وبعذاب يوم عقيم القيامة .
أما قوله : (
الملك يومئذ لله ) فمن أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو ذلك اليوم ، وأراد بذلك أنه لا مالك في ذلك اليوم سواه فهو بخلاف أيام الدنيا التي ملك الله الأمور غيره ، وبين أنه الحاكم بينهم لا حاكم سواه وذلك زجر عن معصيته ثم بين كيف يحكم بينهم ، وأنه يصير المؤمنين إلى جنات النعيم ، والكافرين
[ ص: 50 ] في العذاب المهين ، وقد تقدم وصف الجنة والنار ، فإن قيل : التنوين في يومئذ عن أي جملة ينوب ؟ قلنا : تقديره : الملك يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم لقوله تعالى : (
ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة ) .