(
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور )
قوله تعالى : (
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور )
اعلم أنه تعالى لما دل على قدرته من قبل بما ذكره من ولوج الليل في النهار ونبه به على نعمه ، أتبعه بأنواع أخر من
الدلائل على قدرته ونعمته وهي ستة :
أولها : قوله تعالى : (
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في قوله : (
ألم تر ) وجوها ثلاثة :
أحدها : أن المراد هو الرؤية الحقيقية ، قالوا : لأن الماء النازل من السماء يرى بالعين واخضرار النبات على الأرض مرئي ، وإذا أمكن حمل الكلام على حقيقته فهو أولى . وثانيها : أن المراد ألم تخبر على سبيل الاستفهام . وثالثها : المراد ألم تعلم ، والقول الأول ضعيف لأن الماء وإن كان مرئيا إلا أن كون الله منزلا له من السماء غير مرئي ، إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم ؛ لأن المقصود من تلك الرؤية هو العلم ؛ لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل .
المسألة الثانية : قرئ " مخضرة " كمبقلة ومسبعة أي ذات خضرة ، وهاهنا سؤالات :
[ ص: 55 ] السؤال الأول : لم قال : (
فتصبح ) الأرض ولم يقل : فأصبحت ؟ الجواب : لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان ، كما تقول : أنعم علي فلان عام كذا فأروح وأغدو شاكرا له ، ولو قلت : فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع .
السؤال الثاني : لم رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام ؟ والجواب : لو نصب لأعطى عكس ما هو الغرض ؛ لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار ، مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر ؟ وإن نصبته فأنت ناف لشكره شاك لتفريطه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر .
السؤال الثالث : لم أورد تعالى ذلك دلالة على قدرته على الإعادة ؟ كما قال
أبو مسلم . الجواب : يحتمل ذلك ويحتمل أنه نبه به على عظيم قدرته وواسع نعمه .
السؤال الرابع : ما تعلق قوله : (
إن الله لطيف خبير ) بما تقدم ؟ الجواب : من وجوه :
أحدها : أراد أنه رحيم بعباده ولرحمته فعل ذلك حتى عظم انتفاعهم به ؛ لأن الأرض إذا أصبحت مخضرة والسماء إذا أمطرت كان ذلك سببا لعيش الحيوانات على اختلافها أجمع . ومعنى (
خبير ) أنه عالم بمقادير مصالحهم فيفعل على قدر ذلك من دون زيادة ونقصان . وثانيها : قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس (
لطيف ) بأرزاق عباده (
خبير ) بما في قلوبهم من القنوط . وثالثها : قال
الكلبي : (
لطيف ) في أفعاله (
خبير ) بأعمال خلقه . ورابعها : قال
مقاتل : (
لطيف ) باستخراج النبت (
خبير ) بكيفية خلقه .
الدلالة الثانية : قوله تعالى : (
له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ) والمعنى أن كل ذلك منقاد له غير ممتنع من التصرف فيه ، وهو غني عن الأشياء كلها وعن حمد الحامدين أيضا ؛ لأنه كامل لذاته ، والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور ، ولكنه لما خلق الحيوان فلا بد في الحكمة من قطر ونبات فخلق هذه الأشياء رحمة للحيوانات وإنعاما عليهم لا لحاجة به إلى ذلك . وإذا كان كذلك كان إنعامه خاليا عن غرض عائد إليه فكان مستحقا للحمد . فكأنه قال : إنه لكونه غنيا لم يفعل ما فعله إلا للإحسان ، ومن كان كذلك كان مستحقا للحمد فوجب أن يكون حميدا . فلهذا قال : (
وإن الله لهو الغني الحميد ) .
الدلالة الثالثة : قوله : (
ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض ) أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر ولا أحد من الحديد ولا أكثر هيبة من النار ، وقد سخرها لكم وسخر الحيوانات أيضا حتى ينتفع بها من حيث الأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها ، فلولا أن سخر الله تعالى الإبل والبقر مع قوتهما حتى يذللهما الضعيف من الناس ويتمكن منهما لما كان ذلك نعمة .
الدلالة الرابعة : قوله تعالى : (
والفلك تجري في البحر بأمره ) والأقرب أن المراد : وسخر لكم الفلك لتجري في البحر ، وكيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياح لجريها ، فلولا صفتهما على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص أو تقف أو تعطب . فنبه تعالى على نعمه بذلك ، وبأن خلق ما تعمل منه السفن ، وبأن بين كيف تعمل ، وإنما قال : بأمره لأنه سبحانه لما كان المجري لها بالرياح نسب ذلك إلى أمره توسعا ؛ لأن ذلك يفيد تعظيمه بأكثر مما يفيد لو أضافه إلى فعل بناء على عادة الملوك في مثل هذه اللفظة .
الدلالة الخامسة : قوله تعالى : (
ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف )
[ ص: 56 ] (
رحيم ) واعلم أن النعم المتقدمة لا تكمل إلا بهذه ؛ لأن السماء مسكن الملائكة فوجب أن يكون صلبا ، ووجب أن يكون ثقيلا ، وما كان كذلك فلا بد [ له ] من الهوي لولا مانع يمنع منه ، وهذه الحجة مبنية على ظاهر الأوهام . وقوله تعالى : (
أن تقع ) قال الكوفيون : كي لا تقع ، وقال البصريون : كراهية أن تقع ، وهذا بناء على مسألة كلامية وهي أن الإرادات والكراهات هل تتعلق بالعدم ؟ فمن منع من ذلك صار إلى التأويل الأول ، والمعنى أنه أمسكها لكي لا تقع فتبطل النعم التي أنعم بها .
أما قوله تعالى : (
إن الله بالناس لرءوف رحيم ) فالمعنى أن المنعم بهذه النعم الجامعة لمنافع الدنيا والدين قد بلغ الغاية في الإحسان والإنعام ، فهو إذن رءوف رحيم .
الدلالة السادسة : قوله : (
وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور ) والمعنى أن من سخر له هذه الأمور ، وأنعم عليه بها فهو الذي أحياه فنبه بالإحياء الأول على إنعام الدنيا علينا بكل ما تقدم . ونبه بالإماتة والإحياء الثاني على نعم الدين علينا ، فإنه سبحانه وتعالى خلق الدنيا بسائر أحوالها للآخرة ، وإلا لم يكن للنعم على هذا الوجه معنى . يبين ذلك أنه لولا أمر الآخرة لم يكن للزراعات وتكلفها ولا لركوب الحيوانات وذبحها إلى غير ذلك معنى ، بل كان تعالى يخلقه ابتداء من غير تكلف الزرع والسقي ، وإنما أجرى الله العادة بذلك ليعتبر به في باب الدين ، ولما فصل تعالى هذه النعم قال : (
إن الإنسان لكفور ) وهذا كما قد يعدد المرء نعمه على ولده ، ثم يقول : إن الولد لكفور لنعم الوالد زجرا له عن الكفران وبعثا له على الشكر ، فلذلك أورد تعالى ذلك في الكفار ، فبين أنهم دفعوا هذه النعم وكفروا بها وجهلوا خالقها مع وضوح أمرها ، ونظيره قوله تعالى : (
وقليل من عبادي الشكور ) [ سبأ : 13 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما : الإنسان هاهنا هو الكافر ، وقال أيضا هو
الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل والعاص وأبي بن خلف ، والأولى تعميمه في كل المنكرين .