صفحة جزء
الرابع : قوله تعالى : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) قال صاحب " الكشاف " : ( في الله ) أي في ذات الله ، ومن أجله . يقال : هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقا وجدا ومنه ( حق جهاده ) وهاهنا سؤالات :

السؤال الأول : ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) ؟ والجواب : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص ، فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت الإضافة إليه .

السؤال الثاني : ما هذا الجهاد ؟ الجواب : فيه وجوه :

أحدها : أن المراد قتال الكفار خاصة ، ومعنى ( حق جهاده ) أن لا يفعل إلا عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم أو الغنيمة . والثاني : أن يجاهدوا آخرا كما جاهدوا أولا ، فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر ، روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : أما علمت أنا كنا نقرأ : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) في آخر الزمان كما جاهدتموه في أوله ؟ فقال عبد الرحمن : ومتى ذاك يا أمير المؤمنين ؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء ، واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن وإلا لنقل كنقل نظائره ، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ : وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة . فقال عمر : من الذي أمرنا بجهاده ؟ فقال : قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس ، فقال : صدقت . والثالث : قال ابن عباس : حق جهاده : لا تخافوا في الله لومة لائم . والرابع : قال الضحاك : واعملوا لله حق عمله . والخامس : استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حقوقه بالحرب باليد واللسان ، وجميع ما يمكن وردوا أنفسكم عن الهوى والميل . والوجه السادس : قال عبد الله بن المبارك : حق جهاده : [ ص: 64 ] مجاهدة النفس والهوى . ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك قال : رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر والأولى أن يحمل ذلك على كل التكاليف ، فكل ما أمر به ونهي عنه فالمحافظة عليه جهاد .

السؤال الثالث : هل يصح ما نقل عن مقاتل والكلبي أن هذه الآية منسوخة بقوله : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) [ التغابن : 16 ] كما أن قوله : ( اتقوا الله حق تقاته ) [ آل عمران : 102 ] منسوخ بذلك ؟ الجواب : هذا بعيد ؛ لأن التكليف مشروط بالقدرة لقوله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) [ البقرة : 286 ] فكيف يقول الله وجاهدوا في الله على وجه لا تقدرون عليه ؟ وكيف وقد كان الجهاد في الأول مضيقا حتى لا يصح أن يفر الواحد من عشرة ، ثم خففه الله بقوله : ( الآن خفف الله عنكم ) [ الأنفال : 66 ] ؟ أفيجوز مع ذلك أن يوجبه على وجه لا يطاق حتى يقال إنه منسوخ ؟

النوع الثالث : بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر وهو ثلاثة : الأول : قوله : ( هو اجتباكم ) ومعناه أن التكليف تشريف من الله تعالى للعبد ، فلما خصكم بهذا التشريف فقد خصكم بأعظم التشريفات واختاركم لخدمته والاشتغال بطاعته ، فأي رتبة أعلى من هذا ؟ وأي سعادة فوق هذا ؟ ويحتمل في اجتباكم خصكم بالهداية والمعونة والتيسير .

التالي السابق


الخدمات العلمية