واعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور ، وهي هاهنا:
[ ص: 80 ] القصة الأولى
قصة نوح عليه السلام
(
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين )
قوله تعالى : (
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين )
قال قوم: إن
نوحا كان اسمه يشكر، ثم سمي نوحا لوجوه :
أحدها: لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك، فأهلكهم بالطوفان فندم على ذلك.
وثانيها: لمراجعة ربه في شأن ابنه .
وثالثها: أنه مر بكلب مجذوم، فقال له: اخسأ يا قبيح، فعوتب على ذلك، فقال الله له: أعبتني إذ خلقته، أم عبت الكلب؟ وهذه الوجوه مشكلة؛ لما ثبت أن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى.
أما قوله : (
اعبدوا الله ) فالمعنى أنه سبحانه أرسله
بالدعاء إلى عبادة الله تعالى وحده، ولا يجوز أن يدعوهم إلى ذلك إلا وقد دعاهم إلى معرفته أولا; لأن عبادة من لا يكون معلوما غير جائزة، وإنما يجوز ويجب بعد المعرفة.
أما قوله : (
ما لكم من إله غيره ) فالمراد أن عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه. ومن
حق العبادة أن تحسن لمن أنعم بالخلق والإحياء وما بعدهما، فإذا لم يصح ذلك إلا منه تعالى فكيف يعبد ما لا يضر ولا ينفع؟ وقرئ "غيره" بالرفع على المحل وبالجر على اللفظ، ثم إنه لما لم ينفع فيهم هذا الدعاء واستمروا على عبادة غير الله تعالى حذرهم بقوله: (
أفلا تتقون ) لأن ذلك زجر ووعيد باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه. ثم إنه سبحانه حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة
نوح عليه السلام .
الشبهة الأولى: قولهم: (
ما هذا إلا بشر مثلكم ) وهذه الشبهة تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يقال: إنه لما كان مساويا لسائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض ، امتنع كونه رسولا لله; لأن الرسول لا بد وأن يكون عظيما عند الله تعالى وحبيبا له، والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والمعزة، فلما فقدت هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة.
والثاني: أن يقال: هذا الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور، ولكنه أحب الرياسة والمتبوعية فلم يجد إليهما سبيلا إلا بادعاء النبوة، فصار ذلك شبهة لهم في القدح في نبوته، فهذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى خبرا عنهم: (
يريد أن يتفضل عليكم ) أي: يريد أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم ، كقوله تعالى : (
وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) [يونس: 78] .
[ ص: 81 ] الشبهة الثانية: قولهم: (
ولو شاء الله لأنزل ملائكة ) وشرحه أن الله تعالى لو شاء إرشاد البشر لوجب أن يسلك الطريق الذي يكون أشد إفضاء إلى المقصود، ومعلوم أن
بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى هذا المقصود من بعثة البشر; لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم وكثرة علومهم، فالخلق ينقادون إليهم، ولا يشكون في رسالتهم، فلما لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أرسل رسولا البتة.
الشبهة الثالثة: قولهم: (
ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ) وقوله: "بهذا" إشارة إلى
نوح عليه السلام ، أو إلى ما كلمهم به من الحث على عبادة الله تعالى ، أي: ما سمعنا بمثل هذا الكلام، أو بمثل هذا الذي يدعي وهو بشر أنه رسول الله، وشرح هذه الشبهة أنهم كانوا أقواما لا يعولون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء، فلما لم يجدوا في نبوة
نوح عليه السلام هذه الطريقة حكموا بفسادها. قال القاضي: يحتمل أن يريدوا بذلك كونه رسولا مبعوثا; لأنه لا يمتنع فيما تقدم من زمان آبائهم أنه كان زمان فترة، ويحتمل أن يريدوا بذلك دعاءهم إلى عبادة الله تعالى وحده; لأن آباءهم كانوا على عبادة الأوثان.
الشبهة الرابعة: قولهم: (
إن هو إلا رجل به جنة ) والجنة: الجنون أو الجن، فإن جهال العوام يقولون في المجنون: زال عقله بعمل الجن، وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يفعل أفعالا على خلاف عاداتهم، فأولئك الرؤساء كانوا يقولون للعوام: إنه مجنون، ومن كان مجنونا فكيف يجوز أن يكون رسولا.
الشبهة الخامسة: قولهم: (
فتربصوا به حتى حين ) وهذا يحتمل أن يكون متعلقا بما قبله ؛ أي أنه مجنون فاصبروا إلى زمان حتى يظهر عاقبة أمره , فإن أفاق وإلا قتلتموه، ويحتمل أن يكون كلاما مستأنفا وهو أن يقولوا لقومهم: اصبروا فإنه إن كان نبيا حقا فالله ينصره ويقوي أمره، فنحن حينئذ نتبعه, وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره، فحينئذ نستريح منه، فهذه مجموع الشبه التي حكاها الله تعالى عنهم. واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عنها لركاكتها ووضوح فسادها، وذلك لأن كل عاقل يعلم أن الرسول لا يصير رسولا لأنه من جنس الملك وإنما يصير كذلك بأن يتميز من غيره بالمعجزات، فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولا، بل جعل الرسول من جملة البشر أولى لما مر بيانه في السور المتقدمة، وهو أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة، وأما قولهم: (
يريد أن يتفضل عليكم ) فإن أرادوا به إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب على الرسول، وإن أرادوا به أن يرتفع عليهم على سبيل التجبر والتكبر والانقياد، فالأنبياء منزهون عن ذلك، وأما قولهم : ما سمعنا بهذا ، فهو استدلال بعدم التقليد على عدم وجود الشيء وهو في غاية السقوط; لأن وجود التقليد لا يدل على وجود الشيء, فعدمه من أين يدل على عدمه؟ وأما قولهم : به جنة، فقد كذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله، وأما قولهم: فتربصوا به، فضعيف؛ لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته وهي المعجزة وجب عليهم قبول قوله في الحال، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته; لأن الدولة لا تدل على الحقية، وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول قوله ، سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر، ولما كانت هذه الأجوبة في نهاية الظهور لا جرم تركها الله سبحانه.