الحادي عشر :
القوة العاقلة تقوى على توحيد الكثير وتكثير الواحد ، والقوة الباصرة لا تقوى على ذلك . أما أن القوة العاقلة تقوى على توحيد الكثير ، فذاك لأنها تضم الجنس إلى الفصل فيحدث منهما طبيعة نوعية واحدة ، وأما أنها تقوى على تكثير الواحد فلأنها تأخذ الإنسان وهي ماهية واحدة فتقسمها إلى مفهوماتها وإلى عوارضها اللازمة وعوارضها المفارقة ، ثم تقسم مقوماته إلى الجنس وجنس الجنس ، والفصل وفصل الفصل ، وجنس الفصل وفصل الجنس ، إلى سائر الأجزاء المقومة التي لا تعد من الأجناس ولا من الفصول ، ثم لا تزال تأتي بهذا التقسيم في كل واحد من هذه الأقسام حتى تنتهي من تلك المركبات إلى البسائط الحقيقية ، ثم تعتبر في العوارض اللازمة أن تلك العوارض مفردة أو مركبة ولازمة بوسائط أو بوسط ، أو بغير وسط ، فالقوة العاقلة كأنها نفذت في أعماق الماهيات ، وتغلغلت فيها وميزت كل واحد من أجزائها عن صاحبه ، وأنزلت كل واحد منها في المكان اللائق به . فأما القوة الباصرة فلا تطلع على أحوال الماهيات ، بل
[ ص: 198 ] لا ترى إلا أمرا واحدا ولا تدري ما هو وكيف هو ، فظهر أن القوة العاقلة أشرف .
الثاني عشر :
القوة العاقلة تقوى على إدراكات غير متناهية ، والقوة الحاسة لا تقوى على ذلك .
بيان الأول من وجوه :
الأول : القوة العاقلة يمكنها أن تتوسل بالمعارف الحاضرة إلى استنتاج المجهولات ، ثم إنها تجعل تلك النتائج مقدمات في نتائج أخرى لا إلى نهاية ، وقد عرفت أن القوة الحاسة لا تقوى على الاستنتاج أصلا .
الثاني : أن القوة العاقلة تقوى على تعقل مراتب الأعداد ولا نهاية لها .
الثالث : أن القوة العاقلة يمكنها أن تعقل نفسها ، وأن تعقل أنها عقلت وكذا إلى غير النهاية .
الرابع : النسب والإضافات غير متناهية وهي معقولة لا محسوسة ، فظهر أن القوة العاقلة أشرف .
الثالث عشر :
الإنسان بقوته العاقلة يشارك الله تعالى في إدراك الحقائق وبقوته الحاسة يشارك البهائم ، والنسبة معتبرة فكانت القوة العاقلة أشرف .
الرابع عشر :
القوة العاقلة غنية في إدراكها العقلي عن وجود المعقول في الخارج ، والقوة الحاسة محتاجة في إدراكها الحسي إلى وجود المحسوس في الخارج ، والغني أشرف من المحتاج .
الخامس عشر : هذه الموجودات الخارجية ممكنة لذواتها وإنها محتاجة إلى الفاعل ، والفاعل لا يمكنه الإيجاد على سبيل الإتقان إلا بعد تقدم العلم ، فإذن وجود هذه الأشياء في الخارج تابع للإدراك العقلي ، وأما الإحساس بها فلا شك أنه تابع لوجودها في الخارج ، فإذن القوة الحساسة تبع لتبع القوة العاقلة .
السادس عشر :
القوة العاقلة غير محتاجة في العقل إلى الآلات بدليل أن الإنسان لو اختلت حواسه الخمس ، فإنه يعقل أن الواحد نصف الاثنين ، وأن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية . وأما القوة الحساسة فإنها محتاجة إلى آلات كثيرة ، والغني أفضل من المحتاج .
السابع عشر :
الإدراك البصري لا يحصل إلا للشيء الذي في الجهات ، ثم إنه غير متصرف في كل الجهات بل لا يتناول إلا المقابل أو ما هو في حكم المقابل ، واحترزنا بقولنا في حكم المقابل عن أمور أربعة :
الأول : العرض فإنه ليس بمقابل لأنه ليس في المكان ، ولكنه في حكم المقابل لأجل كونه قائما بالجسم الذي هو مقابل .
الثاني : رؤية الوجه في المرآة ، فإن الشعاع يخرج من العين إلى المرآة ، ثم يرتد منها إلى الوجه فيصير الوجه مرئيا ، وهو من هذا الاعتبار كالمقابل لنفسه .
الثالث : رؤية الإنسان قفاه إذا جعل إحدى المرآتين محاذية لوجهه والأخرى لقفاه .
والرابع : رؤية ما لا يقابل بسبب انعطاف الشعاع في الرطوبات كما هو مشروح في كتاب المناظر وأما القوة العاقلة فإنها مبرأة عن الجهات ، فإنها تعقل الجهة والجهة ليست في الجهة ، ولذلك تعقل أن الشيء إما أن يكون في الجهة ، وإما أن لا يكون في الجهة ، وهذا الترديد لا يصح إلا بعد تعقل معنى قولنا ليس في الجهة .
الثامن عشر :
القوة الباصرة تعجز عند الحجاب ، وأما القوة العاقلة فإنها لا يحجبها شيء أصلا فكانت أشرف .
[ ص: 199 ] التاسع عشر :
القوة العاقلة كالأمير ، والحاسة كالخادم والأمير أشرف من الخادم ، وتقرير [الفرق بين] الإمارة والخدمة مشهور .
العشرون :
القوة الباصرة قد تغلط كثيرا فإنها قد تدرك المتحرك ساكنا وبالعكس ، كالجالس في السفينة ، فإنه قد يدرك السفينة المتحركة ساكنة والشط الساكن متحركا ، ولولا العقل لما تميز خطأ البصر عن صوابه ، والعقل حاكم والحس محكوم ، فثبت بما ذكرنا أن
الإدراك العقلي أشرف من الإدراك البصري ، وكل واحد من الإدراكين يقتضي الظهور الذي هو أشرف خواص النور ، فكان الإدراك العقلي أولى بكونه نورا من الإدراك البصري ، وإذا ثبت هذا فنقول : هذه الأنوار العقلية قسمان :
أحدهما : واجب الحصول عند سلامة الأحوال وهي التعقلات الفطرية .
والثاني : ما يكون مكتسبا وهي التعقلات النظرية . أما الفطرية فليست هي من لوازم جوهر الإنسان لأنه حال الطفولية لم يكن عالما البتة ، فهذه الأنوار الفطرية إنما حصلت بعد أن لم تكن فلا بد لها من سبب ، وأما النظريات فمعلوم أن الفطرة الإنسانية قد يعتريها الزيغ في الأكثر ، وإذا كان كذلك فلا بد من هاد مرشد ولا مرشد فوق كلام الله تعالى وفوق إرشاد الأنبياء ، فتكون
منزلة آيات القرآن عند عين العقل بمنزلة نور الشمس عند العين الباصرة إذ به يتم الإبصار ، فبالحري أن يسمى القرآن نورا كما يسمى نور الشمس نورا ، فنور القرآن يشبه نور الشمس ، ونور العقل يشبه نور العين ، وبهذا يظهر معنى قوله : (
فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا ) [التغابن : 8] وقوله : (
قد جاءكم برهان من ربكم ) [النساء : 174] (
وأنزلنا إليكم نورا مبينا ) [النساء : 174] وإذا ثبت أن
بيان الرسول أقوى من نور الشمس وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم في النورانية من الشمس ، وكما أن الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيره ولا تستفيده من غيره فكذا نفس النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الأنوار العقلية لسائر الأنفس البشرية ، ولا تستفيد الأنوار العقلية من شيء من الأنفس البشرية ، فلذلك وصف الله تعالى الشمس بأنها سراج حيث قال : (
وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ) [الفرقان : 61] ووصف
محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه سراج منير ، إذا عرفت هذا فنقول : ثبت بالشواهد العقلية والنقلية أن
الأنوار الحاصلة في أرواح الأنبياء مقتبسة من الأنوار الحاصلة في أرواح الملائكة ، قال تعالى : (
ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ) [النحل : 2] وقال : (
نزل به الروح الأمين على قلبك ) [الشعراء : 193 - 194] والوحي لا يكون إلا بواسطة الملائكة ، فإذا جعلنا أرواح الأنبياء أعظم استنارة من الشمس ، فأرواح الملائكة التي هي كالمعادن لأنوار عقول الأنبياء لا بد وأن تكون أعظم من أنوار أرواح الأنبياء ، لأن السبب لا بد وأن يكون أقوى من المسبب . ثم نقول : ثبت أيضا بالشواهد العقلية والنقلية أن الأرواح السماوية مختلفة فبعضها مستفيدة وبعضها مفيدة ، قال تعالى في وصف
جبريل عليه السلام : (
مطاع ثم أمين ) [التكوير : 21] وإذا كان هو مطاع الملائكة فالمطيعون لا بد وأن يكونوا تحت أمره ، وقال : (
وما منا إلا له مقام معلوم ) [الصافات : 164] وإذا ثبت هذا
فالمفيد أولى بأن يكون نورا من المستفيد للعلة المذكورة ولمراتب الأنوار في عالم الأرواح ، مثال وهو أن ضوء الشمس إذا وصل إلى القمر ثم دخل في كوة بيت ووقع على مرآة منصوبة على حائط ثم انعكس منها إلى حائط آخر نصب عليه مرآة أخرى ثم انعكس منها إلى طست مملوء من الماء موضوع على الأرض انعكس منه إلى سقف البيت ، فالنور الأعظم في الشمس التي هي المعدن ، وثانيا في القمر ، وثالثا ما وصل إلى المرآة الأولى ، ورابعا ما وصل إلى المرآة الثانية ، وخامسا ما وصل إلى الماء ، وسادسا ما وصل إلى السقف ، وكل ما كان أقرب إلى المنبع الأول فإنه أقوى مما هو أبعد منه ، فكذا الأنوار السماوية لما كانت مرتبة
[ ص: 200 ] لا جرم كان نور المفيد أشد إشراقا من نور المستفيد ، ثم تلك الأنوار لا تزال تكون مترقية حتى تنتهي إلى النور الأعظم والروح الذي هو أعظم الأرواح منزلة عند الله الذي هو المراد من قوله سبحانه : (
يوم يقوم الروح والملائكة صفا ) [النبأ : 38] ثم نقول لا شك أن هذه الأنوار الحسية إن كانت سفلية كانت كأنوار النيران أو علوية كانت كأنوار الشمس والقمر والكواكب ، وكذا الأنوار العقلية سفلية كانت كالأرواح السفلية التي للأنبياء والأولياء ، أو علوية كالأرواح العلوية التي هي الملائكة ، فإنها بأسرها ممكنة لذواتها ، والممكن لذاته يستحق العدم من ذاته والوجود من غيره ، والعدم هو الظلمة الحاصلة والوجود هو النور ،
فكل ما سوى الله مظلم لذاته مستنير بإمرة الله تعالى ، وكذا جميع معارفها بعد وجودها حاصل من وجود الله تعالى ، فالحق سبحانه هو الذي أظهرها بالوجود بعد أن كانت في ظلمات العدم ، وأفاض عليها أنوار المعارف بعد أن كانت في ظلمات الجهالة ، فلا ظهور لشيء من الأشياء إلا بإظهاره ، وخاصة النور إعطاء الإظهار والتجلي والانكشاف ، وعند هذا يظهر أن
النور المطلق هو الله سبحانه وأن إطلاق النور على غيره مجاز ، إذ كل ما سوى الله ، فإنه من حيث هو هو ظلمة لأنه من حيث إنه هو عدم محض ، بل الأنوار إذا نظرنا إليها من حيث هي هي فهي ظلمات ، لأنها من حيث هي هي ممكنات ، والممكن من حيث هو هو معدوم ، والمعدوم مظلم . فالنور إذا نظر إليه من حيث هو هو ظلمة ، فأما إذا التفت إليها من حيث أن الحق سبحانه أفاض عليها نور الوجود فبهذا الاعتبار صارت أنوارا . فثبت أنه سبحانه هو النور ، وأن كل ما سواه فليس بنور إلا على سبيل المجاز . ثم إنه رحمه الله تكلم بعد هذا في أمرين :
الأول : أنه سبحانه لم أضاف النور إلى السماوات والأرض ؟ وأجاب فقال قد عرفت أن
السماوات والأرض مشحونة بالأنوار العقلية والأنوار الحسية ، أما الحسية فما يشاهد في السماوات من الكواكب والشمس والقمر وما يشاهد في الأرض من الأشعة المنبسطة على سطوح الأجسام حتى ظهرت به الألوان المختلفة ، ولولاها لم يكن للألوان ظهور بل وجود ، وأما الأنوار العقلية فالعالم الأعلى مشحون بها وهي جواهر الملائكة ، والعالم الأسفل مشحون بها وهي القوى النباتية والحيوانية والإنسانية ، وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام عالم السفل كما بالنور الملكي ظهور نظام عالم العلو ، وهو المعني بقوله تعالى : (
ليستخلفنهم في الأرض ) [النور : 55] وقال : (
ويجعلكم خلفاء الأرض ) [النمل : 62] فإذا عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار الظاهرة البصرية والباطنية العقلية ، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج ، فإن السراج هو الروح النبوي ، ثم إن الأنوار النبوية القدسية مقتبسة من الأرواح العلوية اقتباس السراج من النور ، وإن العلويات مقتبسة بعضها من بعض ، وإن بينها ترتيبا في المقامات ، ثم ترتقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول ، وأن ذلك هو الله وحده لا شريك له ، فإذن الكل نوره فلهذا قال : (
الله نور السماوات والأرض ) .
السؤال الثاني : فإذا كان
الله النور فلم احتيج في إثباته إلى البرهان ؟ أجاب فقال : إن معنى كونه نور السماوات والأرض معروف بالنسبة إلى النور الظاهر البصري ، فإذا رأيت خضرة الربيع في ضياء النهار فلست تشك في أنك ترى الألوان فربما ظننت أنك لا ترى مع الألوان غيرها ، فإنك تقول لست أرى مع الخضرة غير الخضرة إلا أنك عند غروب الشمس تدرك تفرقة ضرورية بين اللون حال وقوع الضوء عليه وعدم وقوعه
[ ص: 201 ] عليه ، فلا جرم تعرف أن النور معنى غير اللون يدرك مع الألوان إلا أنه كان لشدة اتحاده به لا يدرك ، ولشدة ظهوره يختفي ، وقد يكون الظهور سبب الخفاء ، إذا عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شيء للبصر بالنور الظاهر فقد ظهر كل شيء للبصيرة الباطنة بالله ، ونوره حاصل مع كل شيء لا يفارقه ، ولكن بقي ههنا تفاوت وهو أن النور الظاهر يتصور أن يغيب بغروب الشمس ويحجب ، فحينئذ يظهر أنه غير اللون ، وأما النور الإلهي الذي به يظهر كل شيء لا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره فيبقى مع الأشياء دائما ، فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة ، ولو تصورت غيبته لانهدمت السماوات والأرض ولأدرك عنده من التفرقة ما يحصل العلم الضروري به ، ولكن لما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وجود خالقها ، وأن كل شيء يسبح بحمده لا بعض الأشياء ، وفي جميع الأوقات لا في بعض الأوقات ارتفعت التفرقة وخفي الطريق ، إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد ، فما لا ضد له ولا تغير له بتشابه أحواله ، فلا يبعد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة ظهوره وجلائه ، فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره واحتجب عنهم بإشراق نوره ، واعلم أن هذا الكلام الذي رويناه عن الشيخ الغزالي رحمه الله كلام مستطاب ولكن يرجع حاصله بعد التحقيق إلى أن معنى كونه سبحانه نورا أنه خالق للعالم وأنه خالق للقوى الدراكة ، وهو المعنى من قولنا معنى كونه نور السماوات والأرض أنه هادي أهل السماوات والأرض ، فلا تفاوت بين ما قاله وبين الذي نقلناه عن المفسرين في المعنى ، والله أعلم .