ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .
قوله تعالى :
ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الدلائل وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قوله : (
ألم تر ) بعين عقلك والمراد التنبيه ؛ والإزجاء السوق قليلا قليلا ، ومنه البضاعة المزجاة التي يزجيها كل أحد ، وإزجاء السير في الإبل الرفق بها حتى تسير شيئا فشيئا ، ثم يؤلف بينه ، قال
الفراء "بين" لا يصلح إلا مضافا إلى اسمين فما زاد ، وإنما قال (
بينه ) لأن السحاب واحد في اللفظ ، ومعناه الجمع والواحد سحابة ، قال الله تعالى : (
وينشئ السحاب الثقال ) [الرعد : 12] والتأليف ضم شيء إلى شيء ، أي يجمع بين قطع السحاب فيجعلها سحابا واحدا (
ثم يجعله ركاما ) أي مجتمعا ، والركم جمعك شيئا فوق شيء حتى تجعله مركوما ، والودق : المطر ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ؛ وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد : القطر ، وعن
أبي مسلم الأصفهاني : الماء . (
من خلاله ) من شقوقه ومخارقه جمع خلل كجبال في جمع جبل ، وقرئ "من خلله" .
[ ص: 13 ] المسألة الثانية : اعلم أن قوله : (
يزجي سحابا ) يحتمل أنه سبحانه ينشئه شيئا بعد شيء ، ويحتمل أن يغيره من سائر الأجسام لا في حالة واحدة ، فعلى الوجه الأول يكون نفس السحاب محدثا ، ثم إنه سبحانه يؤلف بين أجزائه ، وعلى الثاني يكون المحدث من قبل الله تعالى تلك الصفات التي باعتبارها صارت تلك الأجسام سحابا ، وفي قوله : (
ثم يؤلف بينه ) دلالة على وجودها متقدما متفرقا ، إذ التأليف لا يصح إلا بين موجودين ، ثم إنه سبحانه يجعله ركاما ، وذلك بتركب بعضها على البعض ، وهذا مما لا بد منه لأن السحاب إنما يحمل الكثير من الماء إذا كان بهذه الصفة ، وكل ذلك من
عجائب خلقه ودلالة ملكه واقتداره ، قال أهل الطبائع إن
تكون السحاب والمطر والثلج والبرد والطل والصقيع في أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار وفي الأقل من تكاثف الهواء ، أما الأول فالبخار الصاعد إن كان قليلا وكان في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار ، فحينئذ ينحل وينقلب هواء . وأما إن كان البخار كثيرا ولم يكن في الهواء من الحرارة ما يحلل ذلك البخار فتلك الأبخرة المتصاعدة إما أن تبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أو لا تبلغ ، فإن بلغت فإما أن يكون البرد هناك قويا أو لا يكون ، فإن لم يكن البرد هناك قويا تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد ، واجتمع وتقاطر ، فالبخار المجتمع هو السحاب ، والمتقاطر هو المطر ، والديمة والوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم ، وأما إن كان البرد شديدا فلا يخلو إما أن يصل البرد إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها وانحلالها حبات كبارا أو بعد صيرورتها كذلك ، فإن كان على الوجه الأول نزل ثلجا ، وإن كان على الوجه الثاني نزل بردا ، وأما إذا لم تبلغ الأخيرة إلى الطبقة الباردة فهي إما أن تكون كثيرة أو تكون قليلة ، فإن كانت كثيرة فهي قد تنعقد سحابا ماطرا وقد لا تنعقد ، أما الأول فذاك لأحد أسباب خمسة :
أحدها : إذا منع هبوب الرياح عن تصاعد تلك الأبخرة .
وثانيها : أن تكون الرياح ضاغطة إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام الريح .
وثالثها : أن تكون هناك رياح متقابلة متصادمة فتمنع صعود الأبخرة حينئذ .
ورابعها : أن يعرض للجزء المتقدم وقوف لثقله وبطء حركته ، ثم يلتصق به سائر الأجزاء الكثيرة المدد .
وخامسها : لشدة برد الهواء القريب من الأرض . وقد نشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعودا يسيرا حتى كأنه مكبة موضوعة على وهدة ، ويكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة والذين يكونون تحت الغمامة يمطرون والذين يكونون فوقها يكونون في الشمس ، وأما إذا كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة ، فإذا ضربها برد الليل كثفها وعقدها ماء محسوسا فنزل نزولا متفرقا لا يحس به إلا عند اجتماع شيء يعتد به ، فإن لم يجمد كان طلا ، وإن جمد كان صقيعا ، ونسبة الصقيع إلى الطل نسبة الثلج إلى المطر ، وأما تكون السحاب من انقباض الهواء فذلك عندما يبرد الهواء وينقبض ، وحينئذ يحصل منه الأقسام المذكورة . والجواب : أنا لما دللنا على حدوث الأجسام وتوسلنا بذلك إلى كونه قادرا مختارا يمكنه إيجاد الأجسام لم يمكنا القطع بما ذكرتموه لاحتمال أنه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذي ذكرتموه ، وأيضا فهب أن الأمر كما ذكرتم ، ولكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بد لها من مؤثر . ثم إنها متماثلة ، فاختصاص كل واحد منها بصفته المعينة من الصعود والهبوط واللطافة والكثافة والحرارة والبرودة لا بد له من مخصص ، فإذا كان هو سبحانه خالقا لتلك الطبائع ، وتلك الطبائع مؤثرة في هذه الأحوال ، وخالق السبب خالق المسبب ، فكان سبحانه هو الذي يزجي سحابا ، لأنه هو الذي خلق تلك الطبائع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جو الهواء ، ثم إن تلك الأبخرة إذا ترادفت في صعودها والتصق بعضها بالبعض فهو سبحانه
[ ص: 14 ] هو الذي جعلها ركاما ، فثبت على جميع التقديرات أن وجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة والحكمة ظاهر بين .
أما قوله سبحانه : (
وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في هذه الآية قولان :
أحدهما : أن
في السماء جبالا من برد خلقها الله تعالى كذلك ، ثم ينزل منها ما شاء ، وهذا القول عليه أكثر المفسرين ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد والكلبي : جبال من برد في السماء .
والقول الثاني : أن السماء هو الغيم المرتفع على رءوس الناس سمي بذلك لسموه وارتفاعه ، وأنه تعالى أنزل من هذا الغيم الذي هو سماء البرد وأراد بقوله (
من جبال ) السحاب العظام لأنها إذا عظمت أشبهت الجبال ، كما يقال فلان يملك جبالا من مال ، ووصفت بذلك توسعا وذهبوا إلى أن البرد ماء جامد خلقه الله تعالى في السحاب ، ثم أنزله إلى الأرض ، وقال بعضهم إنما سمى الله ذلك الغيم جبالا ، لأنه سبحانه خلقها من البرد ، وكل جسم شديد متحجر فهو من الجبال ، ومنه قوله تعالى : (
واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين ) [الشعراء : 184] ومنه : فلان مجبول على كذا ، قال المفسرون : والأول أولى لأن السماء اسم لهذا الجسم المخصوص ، فجعله اسما للسحاب بطريقة الاشتقاق مجاز ، وكما يصح أن يجعل الله الماء في السحاب ثم ينزله بردا ، فقد يصح أن يكون في السماء جبال من برد ، وإذا صح في القدرة كلا الأمرين فلا وجه لترك الظاهر .
المسألة الثانية : قال
أبو علي الفارسي : قوله تعالى : (
من السماء من جبال فيها من برد ) فمن الأولى لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء ، والثانية للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السماء ، والثالثة للتبيين لأن جنس تلك الجبال جنس البرد ، ثم قال : ومفعول الإنزال محذوف ، والتقدير : وينزل من السماء من جبال فيها من برد ، إلا أنه حذف للدلالة عليه .
أما قوله : (
فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء ) فالظاهر أنه راجع إلى البرد ، ومعلوم من حاله أنه قد يضر ما يقع عليه من حيوان ونبات ، فبين سبحانه أنه يصيب به من يشاء على وفق المصلحة ويصرفه ، أي يصرف ضرره عمن يشاء بأن لا يسقط عليه ، ومن الناس من حمل البرد على الحجر وجعل نزوله جاريا مجرى عذاب الاستئصال وذلك بعيد .
أما قوله تعالى : (
يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرئ "يكاد سنا برقه" على الإدغام وقرئ "برقه" جمع برقة وهي المقدار من البرق ، وبرقه بضمتين للإتباع كما قيل في جمع فعلة فعلات كظلمات ، و "سناء برقه" على المد ، والمقصور بمعنى الضوء ، والممدود بمعنى العلو والارتفاع من قولك سنى للمرتفع و (
يذهب بالأبصار ) على زيادة الباء كقوله : (
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) [البقرة : 195] عن
أبي جعفر المدني .
المسألة الثانية : وجه الاستدلال بقوله : (
يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) أن البرق الذي يكون صفته ذلك لا بد وأن يكون نارا عظيمة خالصة ، والنار ضد الماء والبرد ، فظهوره من البرد يقتضي ظهور الضد من الضد ، وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم .
المسألة الثالثة : اختلف النحويون في أنك إذا قلت : ذهبت بزيد إلى الدار ، فهل يجب أن تكون ذاهبا معه
[ ص: 15 ] إلى الدار . فالمنكرون احتجوا بهذه الآية .