صفحة جزء
القصة الرابعة قصة لوط عليه السلام .

( ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) .

قوله تعالى : ( ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا ) .

واعلم أنه تعالى أراد بالقرية سدوم من قرى قوم لوط عليه السلام ، وكانت خمسا ، أهلك الله تعالى أربعا بأهلها وبقيت واحدة . و ( مطر السوء ) الحجارة ، يعني أن قريشا مروا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشأم [ ص: 74 ] على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء ، ( أفلم يكونوا في مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله تعالى ونكاله ، ( بل كانوا ) قوما كفرة ( لا يرجون نشورا ) . وذكروا في تفسير ( يرجون ) وجوها :

أحدها : وهو الذي قاله القاضي ، وهو الأقوى ، أنه محمول على حقيقة الرجاء ؛ لأن الإنسان لا يتحمل متاعب التكاليف ومشاق النظر والاستدلال إلا لرجاء ثواب الآخرة ، فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يرج ثوابها ، فلا يتحمل تلك المشاق والمتاعب .

وثانيها : معناه : لا يتوقعون نشورا وعاقبة ، فوضع الرجاء موضع التوقع ؛ لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن .

وثالثها : معناه : لا يخافون على اللغة التهامية ، وهو ضعيف . والأول هو الحق .

قوله تعالى : ( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) .

اعلم أنه سبحانه لما بين مبالغة المشركين في إنكار نبوته ، وفي إيراد الشبهات في ذلك ، بين بعد ذلك أنهم إذا رأوا الرسول اتخذوه هزوا ، فلم يقتصروا على ترك الإيمان به ، بل زادوا عليه بالاستهزاء والاستحقار ، ويقول بعضهم لبعض : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" ( إن ) الأولى نافية ، والثانية مخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينهما .

المسألة الثانية : جواب ( إذا ) هو ما أضمر من القول ، يعني : وإذا رأوك مستهزئين قالوا : أبعث الله هذا رسولا ، وقوله : ( إن يتخذونك ) جملة اعترضت بين ( إذا ) وجوابها .

المسألة الثالثة : اتخذوه هزوا في معنى استهزءوا به ، والأصل اتخذوه موضع هزء أو مهزوءا به .

المسألة الرابعة : اعلم أن الله تعالى أخبر عن المشركين أنهم متى رأوا الرسول أتوا بنوعين من الأفعال ، أحدهما أنهم يستهزئون به ، وفسر ذلك الاستهزاء بقوله : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ) ، وذلك جهل عظيم ؛ لأن الاستهزاء إما أن يقع بصورته أو بصفته .

أما الأول فباطل ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان أحسن منهم صورة وخلقة ، وبتقدير أنه لم يكن كذلك ، لكنه عليه السلام ما كان يدعي التمييز عنهم بالصورة ، بل بالحجة .

وأما الثاني فباطل ؛ لأنه عليه السلام ادعى التميز عنهم في ظهور المعجز عليه دونهم ، وأنهم ما قدروا على القدح في حجته ودلالته ، ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ، ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية واستهزءوا بالرسول عليه السلام ، وذلك يدل على أنه ليس للمبطل في كل الأوقات إلا السفاهة والوقاحة .

وثانيهما أنهم كانوا يقولون فيه : ( إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) وذلك يدل على أمور :

الأول : أنهم سموا ذلك إضلالا ؛ وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم وفي استعظام صنيعه صلى الله عليه وسلم في صرفهم عنه ، وذلك يدل على أنهم كانوا يعتقدون أن هذا هو الحق ، فمن هذا الوجه يبطل قول أصحاب المعارف في أنه لا يكفر إلا من يعرف الدلائل ؛ لأنهم جهلوه ، ثم نسبهم الله تعالى إلى الكفر والضلال . وقولهم : ( لولا أن صبرنا عليها ) يدل أيضا على ذلك .

الثاني : يدل هذا القول منهم على جد الرسول عليه السلام واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان ، ولولا ذلك لما قالوا : ( إن كاد ليضلنا عن آلهتنا [ ص: 75 ] لولا أن صبرنا عليها ) وهكذا كان عليه السلام ، فإنه في أول الأمر بالغ في إيراد الدلائل والجواب عن الشبهات ، وتحمل ما كانوا يفعلونه من أنواع السفاهة وسوء الأدب .

الثالث : أن هذا يدل على اعتراف القوم بأنهم لم يعترضوا البتة على دلائل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما عارضوها إلا بمحض الجحود والتقليد ; لأن قولهم : ( لولا أن صبرنا عليها ) إشارة إلى الجحود والتقليد ، ولو ذكروا اعتراضا على دلائل الرسول عليه السلام ، لكان ذكر ذلك أولى من ذكر مجرد الجحود والإصرار الذي هو دأب الجهال ، وذلك يدل على أن القوم كانوا مقهورين تحت حجته عليه السلام ، وأنه ما كان في أيديهم إلا مجرد الوقاحة .

الرابع : الآية تدل على أن القوم صاروا في ظهور حجته عليه السلام عليهم كالمجانين ؛ لأنهم استهزءوا به أولا ، ثم وصفوه بأنه كاد يضلنا عن آلهتنا لولا أن قابلناه بالجحود والإصرار ، فهذا الكلام الأخير يدل على أن القوم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل ، والكلام الأول وهو السخرية والاستهزاء لا يليق إلا بالجاهل العاجز ، فالقوم لما جمعوا بين هذين الكلامين دل ذلك على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره ، فتارة بالوقاحة يستهزئون منه ، وتارة يصفونه بما لا يليق إلا بالعالم الكامل ، ثم إنه سبحانه لما حكى عنهم هذا الكلام زيف طريقتهم في ذلك من ثلاثة أوجه :

أولها : قوله : ( وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ) ؛ لأنهم لما وصفوه بالإضلال في قولهم : ( إن كاد ليضلنا ) بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه ، فهو وعيد شديد لهم على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر .

وثانيها : قوله تعالى : ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ) والمعنى أنه سبحانه بين أن بلوغ هؤلاء في جهالتهم وإعراضهم عن الدلائل إنما كان لاستيلاء التقليد عليهم ، وأنهم اتخذوا أهواءهم آلهة ، فكلما دعاهم الهوى إليه انقادوا له ، سواء منع الدليل منه أو لم يمنع ، ثم ههنا أبحاث :

الأول : قوله : ( أرأيت ) كلمة تصلح للإعلام والسؤال ، وههنا هي تعجيب من جهل من هذا وصفه ونعته .

الثاني : قوله : ( اتخذ إلهه هواه ) معناه : اتخذ إلهه ما يهواه أو إلها يهواه ، وقيل : هو مقلوب ، ومعناه : اتخذ هواه إلهه ، وهذا ضعيف ; لأن قوله : ( اتخذ إلهه هواه ) يفيد الحصر ، أي لم يتخذ لنفسه إلها إلا هواه ، وهذا المعنى لا يحصل عند القلب . قال ابن عباس : الهوى إله يعبد ، وقال سعيد بن جبير : كان الرجل من المشركين يعبد الصنم ، فإذا رأى أحسن منه رماه واتخذ الآخر وعبده .

الثالث : قوله : ( أفأنت تكون عليه وكيلا ) أي : حافظا تحفظه من اتباع هواه ؛ أي : لست كذلك .

الرابع : نظير هذه الآية قوله تعالى : ( لست عليهم بمسيطر ) [الغاشية : 22] وقوله : ( وما أنت عليهم بجبار ) [ق : 45] وقوله : ( لا إكراه في الدين ) [البقرة : 256] قال الكلبي : نسختها آية القتال .

وثالثها : قوله : ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ) أم ههنا منقطعة ، معناه بل تحسب ، وذلك يدل على أن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها ، وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول ; لأنهم لشدة عنادهم لا يصغون إلى الكلام ، وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه ، فكأنه ليس لهم عقل ولا سمع البتة ، فعند ذلك شبههم بالأنعام في عدم انتفاعهم بالكلام ، وعدم إقدامهم على التدبر والتفكر ، وإقبالهم على اللذات الحاضرة الحسية وإعراضهم عن طلب السعادات الباقية العقلية . وههنا سؤالات : [ ص: 76 ] السؤال الأول : لم قال : ( أم تحسب أن أكثرهم ) فحكم بذلك على الأكثر دون الكل ؟ والجواب : لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى ويعقل الحق ، إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل .

السؤال الثاني : لم جعلوا أضل من الأنعام ؟ الجواب من وجوه :

أحدها : أن الأنعام تنقاد لأربابها وللذي يعلفها ويتعهدها ، وتميز بين من يحسن إليها وبين من يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يميزون بين إحسانه إليهم وبين إساءة الشيطان إليهم الذي هو عدو لهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يحترزون من العقاب الذي هو أعظم المضار .

وثانيها : أن قلوب الأنعام كما أنها تكون خالية عن العلم ، فهي خالية عن الجهل الذي هو اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو عليه ، مع التصميم . وأما هؤلاء فقلوبهم كما خلت عن العلم فقد اتصفت بالجهل ، فإنهم لا يعلمون ، ولا يعلمون أنهم لا يعلمون ، بل هم مصرون على أنهم يعلمون .

وثالثها : أن عدم علم الأنعام لا يضر بأحد ، أما جهل هؤلاء فإنه منشأ للضرر العظيم ؛ لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجا .

ورابعها : أن الأنعام لا تعرف شيئا ، ولكنهم عاجزون عن الطلب ، وأما هؤلاء الجهال فإنهم ليسوا عاجزين عن الطلب ، والمحروم عن طلب المراتب العالية إذا عجز عنه لا يكون في استحقاق الذم كالقادر عليه التارك له لسوء اختياره .

وخامسها : أن البهائم لا تستحق عقابا على عدم العلم ، أما هؤلاء فإنهم يستحقون عليه أعظم العقاب .

وسادسها : أن البهائم تسبح الله تعالى على مذهب بعض الناس ، على ما قال : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44] ، وقال : ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ) إلى قوله : ( والدواب ) [الحج : 18] ، وقال : ( والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) [النور : 41] وإذا كان كذلك فضلال الكفار أشد وأعظم من ضلال هذه الأنعام .

السؤال الثالث : أنه سبحانه لما نفى عنهم السمع والعقل ، فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين ، وكيف بعث الرسول إليهم ؛ فإن من شرط التكليف العقل ؟ الجواب : ليس المراد أنهم لا يعقلون ، بل إنهم لا ينتفعون بذلك العقل ، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم : إنما أنت أعمى وأصم .

التالي السابق


الخدمات العلمية