[ ص: 86 ] (
ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) .
قوله تعالى : (
ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنهم اختلفوا في أن الهاء في قوله : (
ولقد صرفناه ) إلى أي شيء يرجع ، وذكروا فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وهو الذي عليه الجمهور أنه يرجع إلى المطر ، ثم من هؤلاء من قال : معنى "صرفناه " أنا أجريناه في الأنهار حتى انتفعوا بالشرب وبالزراعات وأنواع المعاش به ، وقال آخرون : معناه أنه سبحانه ينزله في مكان دون مكان ، وفي عام دون عام ، ثم في العام الثاني يقع بخلاف ما وقع في العام الأول ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : ما عام بأكثر مطرا من عام ، ولكن الله يصرفه في الأرض ، ثم قرأ هذه الآية . وروى
ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013521ما من عام بأمطر من عام ، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم ، فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي وثانيها : وهو قول
أبي مسلم : أن قوله : (
صرفناه ) راجع إلى المطر والرياح والسحاب والأظلال وسائر ما ذكر الله تعالى من الأدلة .
وثالثها : (
ولقد صرفناه ) أي هذا القول بين الناس في القرآن وسائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل ، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر ليتفكروا ويستدلوا به على الصانع ، والوجه الأول أقرب ؛ لأنه أقرب المذكورات إلى الضمير .
المسألة الثانية : قال
الجبائي : قوله تعالى : (
ليذكروا ) يدل على أنه تعالى مريد من الكل أن يتذكروا ويشكروا ، ولو أراد منهم أن يكفروا ويعرضوا لما صح ذلك ، وذلك يبطل قول من قال : إن الله تعالى مريد للكفر ممن يكفر ، قال : ودل قوله : (
فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) على قدرتهم على فعل هذا التذكر ؛ إذ لو لم يقدروا لما جاز أن يقال : أبوا أن يفعلوه ، كما لا يقال في الزمن : أبى أن يسعى ، وقال
الكعبي : قوله : (
ولقد صرفناه بينهم ليذكروا ) حجة على من زعم أن القرآن وبال على الكافرين ، وأنه لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا ؛ لأن قوله : ( ليذكروا ) عام في الكل ، وقوله : (
فأبى أكثر الناس ) يقتضي أن يكون هذا الأكثر داخلا في ذلك العام ؛ لأنه لا يجوز أن يقال : أنزلناه على
قريش ليؤمنوا ، فأبى أكثر
بني تميم إلا كفورا . واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مرارا .
المسألة الثالثة : قوله : (
فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) المراد
كفران النعمة وجحودها من حيث لا يتفكرون فيها ولا يستدلون بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه ، وقيل : المراد من الكفور هو الكفر ، وذلك الكفر إنما حصل لأنهم يقولون : مطرنا بنوء كذا . لأن من جحد كون النعم صادرة من المنعم ، وأضاف شيئا من هذه النعمة إلى الأفلاك والكواكب فقد كفر . واعلم أن التحقيق أن من جعل الأفلاك والكواكب مستقلة باقتضاء هذه الأشياء فلا شك في كفره ، وأما من قال : الصانع تعالى جبلها على خواص وصفات تقتضي هذه الحوادث ، فلعله لا يبلغ خطؤه إلى حد الكفر .
المسألة الرابعة : قالوا : الآية دلت على أن خلاف معلوم الله مقدور له ; لأن كلمة لو دلت على أنه تعالى ما شاء أن يبعث في كل قرية نذيرا ، ثم إنه تعالى أخبر عن كونه قادرا على ذلك ، فدل ذلك على أن خلاف معلوم الله مقدور له .
[ ص: 87 ] أما قوله تعالى : (
ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ) فالأقوى أن المراد من ذلك
تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لوجوه :
أحدها : كأنه تعالى بين له أنه مع القدرة على بعثة رسول ونذير في كل قرية ، خصه بالرسالة ، وفضله بها على الكل ، ولذلك أتبعه بقوله : (
فلا تطع الكافرين ) أي : لا توافقهم .
وثانيها : المراد : ولو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة إلى كل العالمين ، ولبعثنا في كل قرية نذيرا ، ولكنا قصرنا الأمر عليك وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل ، فقابل هذا الإجلال بالتشدد في الدين .
وثالثها : أن الآية تقتضي مزج اللطف بالعنف ؛ لأنها تدل على القدرة على أن يبعث في كل قرية نذيرا مثل
محمد ، وأنه لا حاجة بالحضرة الإلهية إلى
محمد البتة ، وقوله : ( ولو ) يدل على أنه سبحانه لا يفعل ذلك ، فبالنظر إلى الأول يحصل التأديب ، وبالنظر إلى الثاني يحصل الإعزاز .
أما قوله : (
فلا تطع الكافرين ) فالمراد نهيه عن طاعتهم ، ودلت هذه الآية على أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي عنه مشتغلا به .
وأما قوله : (
وجاهدهم به جهادا كبيرا ) فقال بعضهم : المراد بذل الجهد في الأداء والدعاء . وقال بعضهم : المراد القتال . وقال آخرون : كلاهما ، والأقرب الأول ; لأن السورة مكية ، والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان ، وإنما قال : (
جهادا كبيرا ) لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لوجب على كل نذير مجاهدة قريته ، فاجتمعت على رسول الله تلك المجاهدات وكثر جهاده من أجل ذلك وعظم ، فقال له : ( وجاهدهم ) بسبب كونك نذير كافة القرى (
جهادا كبيرا ) جامعا لكل مجاهدة .