(
والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) .
قوله تعالى : (
والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) .
اعلم أن الكفار لما قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إن الشياطين تنزل بالقرآن على
محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء ؟ ثم إنه سبحانه فرق بين
محمد صلى الله عليه وسلم وبين الكهنة ، فذكر ههنا ما يدل على الفرق بينه عليه السلام وبين الشعراء ، وذلك هو أن الشعراء يتبعهم الغاوون ، أي الضالون ، ثم بين تلك الغواية بأمرين :
الأول : (
أنهم في كل واد يهيمون ) والمراد منه الطرق المختلفة كقولك : أنا في واد وأنت في واد ، وذلك لأنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس ، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس ، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق بخلاف أمر
محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى والترغيب في الآخرة والإعراض عن الدنيا .
[ ص: 151 ] الثاني : (
وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) وذلك أيضا
من علامات الغواة ، فإنهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه ، وينفرون عن البخل ويصرون عليه ، ويقدحون في الناس بأدنى شيء صدر عن واحد من أسلافهم ، ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش ، وذلك يدل على الغواية والضلالة .
وأما
محمد صلى الله عليه وسلم فإنه بدأ بنفسه حيث قال الله تعالى له : (
فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين ) ثم بالأقرب فالأقرب حيث قال الله تعالى له : (
وأنذر عشيرتك الأقربين ) وكل ذلك على خلاف طريقة الشعراء ، فقد ظهر بهذا الذي بيناه أن
حال محمد صلى الله عليه وسلم ما كان يشبه حال الشعراء ، ثم إن الله تعالى لما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة بيانا لهذا الفرق استثنى عنهم الموصوفين بأمور أربعة :
أحدها : الإيمان وهو قوله : (
إلا الذين آمنوا ) .
وثانيها : العمل الصالح وهو قوله : (
وعملوا الصالحات ) .
وثالثها :
أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق ، وهو قوله : (
وذكروا الله كثيرا ) .
ورابعها : أن لا يذكروا هجو أحد إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم ، وهو قوله : (
وانتصروا من بعد ما ظلموا ) قال الله تعالى : (
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) [ النساء : 148 ] ثم إن الشرط فيه ترك الاعتداء لقوله تعالى : (
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) [ البقرة : 194 ] وقيل : المراد بهذا الاستثناء
nindex.php?page=showalam&ids=82عبد الله بن رواحة nindex.php?page=showalam&ids=144وحسان بن ثابت nindex.php?page=showalam&ids=331وكعب بن مالك وكعب بن زهير لأنهم كانوا يهجون
قريشا ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013535أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : اهجهم ، فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل " وكان يقول
nindex.php?page=showalam&ids=144لحسان بن ثابت : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013536قل وروح القدس معك " .
فأما قوله تعالى : (
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) فالذي عندي فيه والله أعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة ما يزيل الحزن عن قلب رسوله صلى الله عليه وسلم من الدلائل العقلية ، ومن أخبار الأنبياء المتقدمين ، ثم ذكر الدلائل على نبوته عليه السلام ، ثم ذكر سؤال المشركين في تسميتهم
محمدا صلى الله عليه وسلم تارة بالكاهن ، وتارة بالشاعر ، ثم إنه تعالى بين الفرق بينه وبين الكاهن أولا ثم بين الفرق بينه وبين الشاعر ثانيا ، ختم السورة بهذا التهديد العظيم ، يعني : أن
الذين ظلموا أنفسهم وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات ، والتأمل في هذه البينات فإنهم سيعلمون بعد ذلك أي منقلب ينقلبون وقال الجمهور : المراد منه الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء ، والأول أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها والله أعلم .
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا
محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .