(
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون ) .
قوله تعالى : (
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون ) .
اعلم أنه تعالى لما بين ما للمؤمنين من البشرى أتبعه بما على الكفار من سوء العذاب فقال : (
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم ) ، واختلف الناس في أنه كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته مع أنه أسنده إلى الشيطان في قوله : (
فزين لهم الشيطان أعمالهم ) [ النحل : 63 ] ؟ فأما أصحابنا فقد أجروا الآية على ظاهرها وذلك لأن الإنسان لا يفعل شيئا البتة إلا إذا دعاه الداعي إلى الفعل والمعقول من الداعي هو العلم والاعتقاد والظن بكون الفعل مشتملا على منفعة ، وهذا الداعي لا بد وأن يكون من فعل الله تعالى لوجهين :
الأول : أنه لو كان من فعل العبد لافتقر فيه إلى داع آخر ويلزم التسلسل وهو محال .
الثاني : وهو أن العلم إما أن يكون ضروريا أو كسبيا ، فإن كان ضروريا فلا بد فيه من تصورين والتصور يمتنع أن يكون مكتسبا لأن المكتسب إن كان شاعرا به فهو متصور له ، وتحصيل الحاصل محال وإن لم يكن شاعرا به كان
[ ص: 154 ] غافلا عنه والغافل عن الشيء يمتنع أن يكون طالبا له ، فإن قلت : هو مشعور به من وجه دون وجه ، قلت : فالمشعور به غير ما هو غير مشعور به ، فيعود التقسيم المتقدم في كل واحد من هذين الوجهين ، وإذا ثبت أن التصور غير مكتسب البتة والعلم الضروري هو الذي يكون حضور كل واحد من تصوريه كافيا في حصول التصديق ، فالتصورات غير كسبية وهي مستلزمة للتصديقات ، فإذن متى حصلت التصورات حصل التصديق لا محالة ، ومتى لم تحصل لم يحصل التصديق البتة ، فحصول هذه التصديقات البديهية ليس بالكسب ، ثم إن التصديقات البديهية إن كانت مستلزمة للتصديقات النظرية لم تكن التصديقات النظرية كسبية ، لأن لازم الضروري ضروري ، وإن لم تكن مستلزمة لها لم تكن تلك الأشياء التي فرضناها علوما نظرية كذلك بل هي اعتقادات تقليدية ، لأنه لا معنى لاعتقاد المقلد إلا اعتقاد تحسيني يفعله ابتداء من غير أن يكون له موجب فثبت بهذا أن العلوم بأسرها ضرورية ، وثبت أن مبادئ الأفعال هي العلوم ، فأفعال العباد بأسرها ضرورية ، والإنسان مضطر في صورة مختار ، فثبت أن الله تعالى هو الذي زين لكل عامل عمله . والمراد من التزيين هو أنه يخلق في قلبه العلم بما فيه من المنافع واللذات ولا يخلق في قلبه العلم بما فيه من المضار والآفات ، فقد ثبت بهذه الدلائل القاطعة العقلية وجوب إجراء هذه الآية على ظاهرها ، أما
المعتزلة فإنهم ذكروا في تأويلها وجوها :
أحدها : أن المراد بينا لهم أمر الدين وما يلزمهم أن يتمسكوا به وزيناه بأن بينا حسنه وما لهم فيه من الثواب ، لأن التزيين من الله تعالى للعمل ليس إلا وصفه بأنه حسن وواجب وحميد العاقبة ، وهو المراد من قوله : (
حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ) [ الحجرات : 7 ] ومعنى (
فهم يعمهون ) يدل على ذلك لأن المراد فهم يعدلون وينحرفون عما زينا من أعمالهم .
وثانيها : أنه تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق جعلوا إنعام الله تعالى بذلك عليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وعدم الانقياد لما يلزمهم من التكاليف ، فكأنه تعالى زين بذلك أعمالهم وإليه إشارة الملائكة عليهم السلام في قولهم : (
ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر ) [ الفرقان : 18 ] .
وثالثها : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند إليه .
والجواب عن الأول أن قوله تعالى : (
أعمالهم ) صيغة عموم توجب أن يكون الله تعالى قد زين لهم كل أعمالهم حسنا كان العمل أو قبيحا ومعنى التزيين قد قدمناه .
وعن الثاني : أن الله تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق فهل لهذه الأمور أثر في ترجيح فاعلية المعصية على تركها أو ليس لها فيه أثر ، فإن كان الأول فقد دللنا على أن الترجيح متى حصل فلا بد وأن ينتهي إلى حد الاستلزام وحينئذ يحصل الغرض وإن لم يكن فيه أثر صارت هذه الأشياء بالنسبة إلى أعمالهم كصرير الباب ونعيق الغراب ، وذلك يمنع من إسناد فعلهم إليها وهذا بعينه هو الجواب عن التأويل الثالث الذي ذكروه والله أعلم .
أما قوله تعالى : (
فهم يعمهون ) فالعمه التحير والتردد كما يكون حال الضال عن الطريق .
أما قوله : (
أولئك الذين لهم سوء العذاب ) ففيه وجهان :
الأول : أنه القتل والأسر يوم
بدر .
والثاني : مطلق العذاب سواء كان في الدنيا أو في الآخرة والمراد بالسوء شدته وعظمه .
وأما قوله : (
هم الأخسرون ) ففيه وجهان :
الأول : أنه لا خسران أعظم من أن يخسر المرء نفسه بأن يسلب عنه الصحة والسلامة في الدنيا ويسلم في الآخرة إلى العذاب العظيم .
الثاني : المراد أنهم خسروا منازلهم في الجنة لو أطاعوا ، فإنه
لا مكلف إلا وعين له منزل في الجنة لو أطاع فإذا عصى عدل به إلى غيره فيكون قد خسر ذلك المنزل .