(
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون )
قوله تعالى : (
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون )
اعلم أنه تعالى لما بين أنه المختص بالقدرة ، فكذلك بين أنه هو المختص بعلم الغيب ، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه هو الإله المعبود ، لأن الإله هو الذي يصح منه مجازاة من يستحق الثواب على وجه لا يلتبس بأهل العقاب ، فإن قيل : الاستثناء حكمه إخراج ما لولاه ، لوجب أو لصح دخوله تحت المستثنى منه ، ودلت الآية ههنا على استثناء الله سبحانه وتعالى عمن في السماوات والأرض ، فوجب كونه ممن في السماوات والأرض وذلك يوجب كونه تعالى في المكان ، والجواب : هذه الآية متروكة الظاهر ؛ لأن من قال : إنه تعالى في المكان زعم أنه فوق السماوات ، ومن قال : إنه ليس في مكان ، فقد نزهه عن كل الأمكنة ، فثبت بالإجماع أنه تعالى ليس في السماوات والأرض ، فإذن وجب تأويله ، فنقول : إنه تعالى ممن في السماوات والأرض ، كما يقول المتكلمون : الله تعالى في كل مكان على معنى أن علمه في الأماكن كلها ، لا يقال : إن كونه في السماوات والأرض مجاز ، وكونهم فيهن حقيقة ، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازا غير جائزة ، لأنا نقول : كونهم في السماوات والأرض ، كما أنه حاصل حقيقة ، وهو حصول ذواتهم في الأحياز ، فكذلك حاصل مجازا ، وهو كونهم عالمين
[ ص: 182 ] بتلك الأمكنة ، فإذا حملنا هذه الغيبة على المعنى المجازي ، وهو الكون فيها بمعنى العلم دخل الرب سبحانه وتعالى والعبيد فيه ، فصح الاستثناء .
أما قوله : (
وما يشعرون ) فهو صفة لأهل السماوات والأرض نفى أن يكون لهم علم الغيب ، وذكر في جملة الغيب متى البعث بقوله : (
أيان يبعثون ) فأيان بمعنى متى وهي كلمة مركبة من أي والآن ، وهو الوقت ، وقرئ ( إيان ) بكسر الهمزة .
أما قوله : (
بل ادارك علمهم في الآخرة ) فاعلم أن كلام صاحب "الكشاف" فيه مرتب على ثلاثة أبحاث :
البحث الأول : فيه اثنتا عشرة قراءة : بل أدرك ، بل ادرك ، بل ادارك ، بل تدارك ، بل أأدرك بهمزتين ، بل آأدرك بألف بينهما ، بل آدرك بالتخفيف والنقل ، بل ادرك بفتح اللام وتشديد الدال ، وأصله : بل أدرك على الاستفهام ، بلى أدرك ، بلى أأدرك ، أم تدارك ، أم أدرك .
البحث الثاني : ادارك أصله تدارك ، فأدغمت التاء في الدال ، وأدرك افتعل .
البحث الثالث : معنى ادرك علمهم انتهى وتكامل ، وأدرك تتابع واستحكم ثم فيه وجوه :
أحدها : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ، ومكنوا من معرفتها ، وهم شاكون جاهلون ، وذلك قوله : (
بل هم في شك منها بل هم منها عمون ) يريد المشركين ممن في السماوات والأرض ؛ لأنهم لما كانوا من جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع ، كما يقال : بنو فلان فعلوا كذا ، وإنما فعله ناس منهم . فإن قيل : الآية سيقت
لاختصاص الله تعالى بعلم الغيب ، وإن العباد لا علم لهم بشيء منه ، وإن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به ، فكيف ناسب هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة ؟ والجواب : كأنه سبحانه قال : كيف يعلمون الغيب مع أنهم شكوا في ثبوت الآخرة التي دلت الدلائل الظاهرة القاهرة عليها ، فمن غفل عن هذا الشيء الظاهر ، كيف يعلم الغيب الذي هو أخفى الأشياء ؟
الوجه الثاني : أن وصفهم باستحكام العلم تهكم بهم ، كما تقول لأجهل الناس ما أعلمك على سبيل الهزء ، وذلك حيث شكوا في إثبات ما الطريق إليه واضح ظاهر .
الوجه الثالث : أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني من قولك : أدركت الثمرة ؛ لأن تلك غايتها التي عندها تعدم ، وقد فسره
الحسن باضمحل علمهم ؛ وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك . أما وجه قراءة من قرأ : بل أأدرك على الاستفهام ، فهو أنه استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم ، وكذا من قرأ : أم أدرك وأم تدارك ؛ لأنها أم هي التي بمعنى بل والهمزة ، وأما من قرأ : بلى أدرك ، فإنه لما جاء ببلى بعد قوله : (
وما يشعرون ) كان معناه بلى يشعرون ، ثم فسر الشعور بقوله : أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم ، فكأنه قال : شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها ، فيرجع إلى نفي الشعور على أبلغ ما يكون ، وأما من قرأ : بلى أأدرك على الاستفهام ، فمعناه : بلى يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها وإذ أنكر علمهم بكونها ، لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها . فإن قلت : هذه الإضرابات الثلاث ما معناها ؟ قلت : ما هي إلا بيان درجاتهم وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية ، ثم بما هو أسوأ حالا وهو العمى ، وفيه نكتة وهي أنه تعالى جعل الآخرة مبدأ
[ ص: 183 ] عماهم فلذلك عداه بمن دون عن ؛ لأن الفكر بالعاقبة , والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم .