(
وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )
قوله تعالى : (
وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )
اعلم أن الله تعالى بين بالدلائل القاهرة كمال القدرة وكمال العلم ، ثم فرع عليهما القول بإمكان الحشر ، ثم بين الوجه في كون القرآن معجزا ، ثم فرع عليه نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم تكلم الآن في مقدمات قيام القيامة ، وإنما أخر تعالى الكلام في هذا الباب عن إثبات النبوة ، لما أن هذه الأشياء لا يمكن معرفتها إلا بقول النبي الصادق ، وهذا هو النهاية في جودة الترتيب . واعلم أنه تعالى ذكر تارة ما يكون كالعلامة لقيام القيامة ، وتارة الأمور التي تقع عند قيام القيامة ، فذكر أولا
من علامات القيامة دابة الأرض ، والناس تكلموا فيها من وجوه :
أحدها : في مقدار جسمها ، وفي الحديث أن طولها ستون ذراعا . وروي أيضا أن رأسها تبلغ السحاب . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة : ما بين قرنيها فرسخ للراكب .
وثانيها : في كيفية خلقتها ، فروي أن لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج في وصفها : رأس ثور ، وعين خنزير ، وأذن فيل ، وقرن أيل ، وصدر أسد ، ولون نمر ، وخاصرة بقرة ، وذنب كبش ، وخف بعير .
وثالثها : في كيفية خروجها ؛ عن
علي عليه السلام أنها تخرج ثلاثة أيام ، والناس ينظرون ، فلا يخرج إلا ثلثها . وعن
الحسن : لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام .
ورابعها : في موضع خروجها "
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013542سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أين تخرج الدابة ؟ فقال : من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى المسجد [ ص: 187 ] الحرام " . وقيل : تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية .
وخامسها : في عدد خروجها ، فروي أنها تخرج ثلاث مرات ، تخرج بأقصى اليمن ، ثم تكمن ، ثم تخرج بالبادية ، ثم تكمن دهرا طويلا ، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار
بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد ، فقوم يهربون ، وقوم يقفون .
واعلم أنه لا دلالة في الكتاب على شيء من هذه الأمور ، فإن صح الخبر فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ، وإلا لم يلتفت إليه .
أما قوله تعالى : (
وإذا وقع القول عليهم ) فالمراد من القول متعلقه وهو ما وعدوا به من قيام الساعة ، ووقوعه حصوله ، والمراد مشارفة الساعة وظهور أشراطها ، أما دابة الأرض فقد عرفتها .
وأما قوله : (
تكلمهم ) فقرئ ( تكلمهم ) من الكلم وهو الجرح ، روي أن الدابة تخرج من الصفا ومعها عصا
موسى عليه السلام وخاتم
سليمان ، فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا
موسى عليه السلام ، فتنكت نكتة بيضاء ، فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه ، وتنكت الكافر في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه .
واعلم أنه يجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضا على معنى التكثير ، يقال : فلان مكلم ، أي مجرح . وقرأ أبي ( تنبئهم ) ، وقرأ
ابن مسعود : تكلمهم بأن الناس ، والقراءة بأن مكسورة حكاية لقول الدابة ذلك ، أو هي حكاية لقول الله تعالى بين به أنه أخرج الدابة لهذه العلة . فإن قيل : إذا كانت حكاية لقول الدابة ، فكيف يقول بآياتنا ؟ جوابه : إن قولها حكاية لقول الله تعالى ، أو على معنى بآيات ربنا ، أو لاختصاصها بالله تعالى أضافت آيات الله إلى نفسها ، كما يقول بعض خاصة الملك خيلنا وبلادنا ، وإنما هي خيل مولاه وبلاده ، ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار ، أي تكلمهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون .
وأما قوله : (
ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا ) فاعلم أن هذا من الأمور الواقعة بعد قيام القيامة ، فالفرق بين من الأولى والثانية ، أن الأولى للتبعيض ، والثانية للتبيين ، كقوله : (
من الأوثان ) ( الحج : 30 ) .
أما قوله : (
فهم يوزعون ) معناه : يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار ، وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه ، كما وصفت جنود
سليمان بذلك وقوله : (
حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ) فهذا وإن احتمل معجزات الرسل كما قاله بعضهم ، فالمراد كل الآيات ، فيدخل فيه سائر الكفار الذين كذبوا بآيات الله أجمع أو بشيء منها .
أما قوله : (
ولم تحيطوا بها علما ) فالواو للحال كأنه قال : أكذبتم بها ، بادي الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها .
أما قوله : (
أم ماذا كنتم تعملون ) فالمراد لما لم تشتغلوا بذلك العمل المهم ، فأي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ؟ ! كأنه قال : كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل ، ثم قال : (
ووقع القول عليهم ) يريد أن العذاب الموعود يغشاهم بسبب تكذيبهم بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار ؛ كقوله : (
هذا يوم لا ينطقون ) ( المرسلات : 35 ) ثم إنه سبحانه بعد أن خوفهم بأحوال القيامة ذكر كلاما يصلح أن يكون دليلا على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال : (
ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا )
[ ص: 188 ] أما وجه دلالته على التوحيد ، فلما ظهر في العقول أن
التقليب من النور إلى الظلمة ، ومن الظلمة إلى النور ، لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية . وأما وجه دلالته على الحشر ، فلأنه لما ثبتت قدرته تعالى في هذه الصورة على القلب من النور إلى الظلمة وبالعكس ، فأي امتناع في ثبوت قدرته على القلب من الحياة إلى الموت مرة ، ومن الموت إلى الحياة أخرى . وأما وجه دلالته على النبوة فلأنه تعالى يقلب الليل والنهار لمنافع المكلفين ، وفي بعثة الأنبياء والرسل إلى الخلق منافع عظيمة ، فما المانع من بعثتهم إلى الخلق لأجل تحصيل تلك المنافع ؟ فقد ثبت أن هذه الكلمة الواحدة كافية في إقامة الدلالة على تصحيح الأصول الثلاثة التي منها منشأ كفرهم واستحقاقهم العذاب ، ثم في الآية سؤالان :
السؤال الأول : ما السبب في أن جعل الإبصار للنهار وهو لأهله ؟ جوابه : تنبيها على كمال هذه الصفة فيه .
السؤال الثاني : لما قال : (
جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ) [ يونس : 67 ]فلم لم يقل : والنهار لتبصروا فيه ؟ جوابه : لأن السكون في الليل هو المقصود من الليل ، وأما الإبصار في النهار ، فليس هو المقصود بل هو وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية .
وأما قوله : (
إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) خص المؤمنين بالذكر ، وإن كانت أدلة للكل من حيث اختصوا بالقبول والانتفاع على ما تقدم في نظائره .