أما قوله تعالى : (
اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ) فاعلم أن الله تعالى قد عبر عن هذا المعنى بثلاث عبارات :
أحدها : هذه .
وثانيها : قوله في طه : (
واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء ) [ طه : 22 ] .
وثالثها : قوله في النمل : (
وأدخل يدك في جيبك ) [ النمل : 12 ] قال
العزيزي في غريب القرآن : (
اسلك يدك في جيبك ) أدخلها فيه .
أما قوله : (
واضمم إليك جناحك من الرهب ) فأحسن الناس كلاما فيه ، قال صاحب "الكشاف " : فيه معنيان :
أحدهما : أن
موسى عليه السلام لما قلب الله له العصا حية فزع واضطرب ، فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له : إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء ، فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران ؛ اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار
[ ص: 212 ] معجزة أخرى ، والمراد بالجناح اليد ؛ لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر ، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى ، فقد ضم جناحه إليه .
الثاني : أن يراد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعاره من فعل الطائر ؛ لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما ، وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران ، ومعنى قوله : (
من الرهب ) أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية ، فاضمم إليك جناحك . وقوله : (
اسلك يدك في جيبك ) على أحد التفسيرين واحد ، ولكن خولف بين العبارتين ، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين ، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء ، وفي الثاني إخفاء الرهب . فإن قيل : قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموما وفي الآخر مضموما إليه ، وذلك قوله : (
واضمم إليك جناحك ) وقوله : (
واضمم يدك إلى جناحك ) فما التوفيق بينهما ؟ قلنا : المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى ، وبالمضموم إليه اليد اليسرى ، وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح ، هذا كله كلام صاحب "الكشاف" ، وهو في نهاية الحسن .
أما قوله تعالى : (
فذانك ) قرئ مخففا ومشددا ، فالمخفف مثنى ( ذا ) ، والمشدد مثنى ( ذان ) . قوله : (
برهانان من ربك ) حجتان نيرتان على صدقه في النبوة وصحة ما دعاهم إليه من التوحيد ، وظاهر الكلام يقتضي أنه تعالى أمره بذلك قبل لقاء
فرعون حتى عرف ما الذي يظهره عنده من المعجزات ، لأنه تعالى حكى بعد ذلك عن
موسى عليه السلام أنه قال : (
إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون ) قال القاضي : وإذا كان كذلك فيجب أن يكون في حال ظهور البرهانين هناك من دعاه إلى رسالته من أهله أو غيرهم ، إذ المعجزات إنما تظهر على الرسل في حال الإرسال لا قبله ، وإنما تظهر لكي يستدل بها غيرهم على الرسالة وهذا ضعيف ؛ لأنه ثبت أنه لا بد في إظهار المعجزة من حكمة ولا حكمة أعظم من أن يستدل بها الغير على صدق المدعي ، وأما كونه لا حكمة ههنا فلا نسلم ، فلعل هناك أنواعا من الحكم والمقاصد سوى ذلك ، لا سيما وهذه الآيات متطابقة على أنه لم يكن هناك مع
موسى عليه السلام أحد .