(
ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون )
قوله تعالى : (
ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون )
اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآية أنه يسأل الكفار يوم القيامة عن ثلاثة أشياء .
أحدها : قوله : (
ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) لما ثبت أن
الكفار يوم القيامة قد عرفوا بطلان ما كانوا عليه وعرفوا صحة التوحيد والنبوة بالضرورة فيقول لهم أين ما كنتم تعبدونه وتجعلونه شريكا في العبادة وتزعمون أنه يشفع ؟ أين هو لينصركم ويخلصكم من هذا الذي نزل بكم .
ثم بين تعالى
ما يقوله من حق عليه القول ، والمراد من القول هو قوله : (
لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) (السجدة : 13 ) ومعنى حق عليه القول ، أي حق عليه مقتضاه ، واختلفوا في أن الذين حق عليهم هذا القول من هم ؟ فقال بعضهم : الرؤساء الدعاة إلى الضلال ، وقال بعضهم الشياطين .
قوله : (
ربنا هؤلاء الذين أغوينا ) هؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته ، والراجع إلى الموصوف محذوف ، وأغويناهم الخبر ، والكاف صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا ، والمراد كما أن غينا باختيارنا فكذا غيهم باختيارهم يعني أن إغواءنا لهم ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين بالإقدام على تلك العقائد والأعمال ، وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان أنه قال :
[ ص: 8 ] (
إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) [إبراهيم : 22] وقال تعالى لإبليس : (
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) [الحجر : 42] فقوله : (
إلا من اتبعك ) [الحجر : 42] يدل على أن ذلك الاتباع لهم من قبل أنفسهم لا من قبل إلجاء الشيطان إلى ذلك ، ثم قال تبرأنا إليك منهم ومن عقائدهم وأعمالهم ما كانوا إيانا يعبدون إنما كانوا يعبدون أهواءهم ، والحاصل أنهم يتبرءون منهم كما قال تعالى : (
إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ) (البقرة : 166) وأيضا فلا يمتنع في قوله تعالى : (
أين شركائي ) أن يريد به هؤلاء الرؤساء والشياطين ، فإنهم لما أطاعوهم فقد صيروهم لمكان الطاعة بمنزلة الشريك لله تعالى ، وإذا حمل الكلام على هذا الوجه كان جوابهم أن يقولوا : إلهنا هؤلاء ما عبدونا إنما عبدوا أهواءهم الفاسدة .
وثانيها : قوله تعالى : (
وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ) والأقرب أن هذا على سبيل التقرير ؛ لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم لهم ، فالمراد أنهم لو دعوهم لم يوجد منهم إجابة في النصرة وأن العذاب ثابت فيهم ، وكل ذلك على وجه التوبيخ ، وفي ذكره ردع وزجر في دار الدنيا ، فأما قوله تعالى : (
لو أنهم كانوا يهتدون ) فكثير من المفسرين زعموا أن جواب لو محذوف وذكروا فيه وجوها :
أحدها : قال
الضحاك ومقاتل : يعني : المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة .
وثانيها : لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أن العذاب حق .
وثالثها : ودوا حين رأوا العذاب لو كانوا في الدنيا يهتدون .
ورابعها : لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب .
وخامسها : قد آن لهم أن يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذا رأوا العذاب ويؤكد ذلك قوله تعالى : (
لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ) (الشعراء : 201 ) وعندي أن الجواب غير محذوف ، وفي تقريره وجوه :
أحدها : أن الله تعالى إذا خاطبهم بقوله : (
ادعوا شركاءكم ) فهاهنا يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسكر والدوار ويصيرون بحيث لا يبصرون شيئا فقال تعالى : (
ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ) شيئا ، أما لما صاروا من شدة الخوف بحيث لا يبصرون شيئا لا جرم ما رأوا العذاب .
وثانيها : أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء وهي الأصنام أنهم لا يجيبون الذين دعوهم قال في حقهم (
ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ) أي : هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين ، ولكنها ليست كذلك فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل قوله : (
ورأوا العذاب ) ضمير لا يليق إلا بالعقلاء فكيف يصح عوده إلى الأصنام ؟ قلنا هذا كقوله : (
فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ) وإنما ورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا هاهنا .
وثالثها : أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب ، أي والكفار علموا حقية هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون ، وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب (لو) محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك النظم من الآية .
الأمر الثالث من
الأمور التي يسأل الله الكفار عنها قوله : (
ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء ) أي : فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعا لا تهتدي إليهم ، فهم لا يتساءلون لا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس في المشكلات ؛ لأنهم يتساوون جميعا في عمى الأنباء عليهم ، والعجز عن الجواب ، وقرئ فعميت وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك يتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال ، ويفوضون الأمر إلى علم الله تعالى وذلك قوله تعالى : (
يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ) (المائدة : 109) فما ظنك بهؤلاء الضلال ، قال القاضي : هذه الآية تدل على بطلان القول بالجبر ؛ لأن فعلهم لو كان خلقا من الله تعالى ويجب وقوعه بالقدرة والإرادة ؛ لما عميت عليهم الأنباء ولقالوا : إنما أتينا في تكذيب الرسل من جهة خلقك فينا تكذيبهم والقدرة
[ ص: 9 ] الموجبة لذلك ، فكانت حجتهم على الله تعالى ظاهرة ، وكذلك القول فيما تقدم ؛ لأن الشيطان كان له أن يقول : إنما أغويت بخلقك في الغواية ، وإنما قبل من دعوته لمثل ذلك ؛ فتكون الحجة لهم في ذلك قوية والعذر ظاهرا .
والجواب : أن القاضي لا يترك آية من الآيات المشتملة على المدح والذم والثواب والعقاب إلا ويعيد استدلاله بها ، وكما أن وجه استدلاله في الكل هذا الحرف ، فكذا وجه جوابنا حرف واحد ، وهو أن علم الله تعالى بعدم الإيمان مع وقوع الإيمان متنافيان لذاتيهما ، فمع العلم بعدم الإيمان إذا أمر بإدخال الإيمان في الوجود فقد أمر بالجمع بين الضدين ، والذي اعتمد القاضي عليه في دفع هذا الحرف في كتبه الكلامية قوله : خطأ قول من يقول : إنه يمكن ، وخطأ قول من يقول : إنه لا يمكن ، بل الواجب السكوت ، ولو أورد الكافر هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت ، فتكون حجة الكافر قوية ، وعذره ظاهرا فثبت أن الإشكال مشترك . والله أعلم .