[ ص: 28 ] ثم قال : (
من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ) .
لما بين بقوله : أحسب الناس أن العبد لا يترك في الدنيا سدى ، وبين في قوله : (
أم حسب الذين يعملون السيئات ) أن من ترك ما كلف به يعذب كذا ، بين أن
من يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع عمله ولا يخيب أمله ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنا ذكرنا في مواضع أن الأصول الثلاثة وهي : الأول وهو الله تعالى ووحدانيته ، والأصل الآخر وهو اليوم الآخر ، والأصل المتوسط وهو النبي المرسل من الأول الموصل إلا الآخر لا يكاد ينفصل في الذكر الإلهي بعضها عن بعض ، فقوله : (
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا ) فيه إشارة إلى الأصل الأول يعني أظنوا أنه يكفي الأصل الأول ، وقوله (
وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم ) يعني بإرسال الرسل وإيضاح السبل ، فيه إشارة إلى الأصل الثاني وقوله : (
أم حسب الذين يعملون السيئات ) مع قوله : (
من كان يرجو لقاء الله ) فيه إشارة إلى الأصل الثالث وهو الآخر .
المسألة الثانية : ذكر بعض المفسرين في
تفسير لقاء الله أنه الرؤية وهو ضعيف، فإن اللقاء والملاقاة بمعنى وهو في اللغة بمعنى الوصول حتى أن جمادين إذا تواصلا فقد لاقى أحدهما الآخر .
المسألة الثالثة : قال بعض المفسرين
المراد من الرجاء الخوف والمعنى من قوله : (
من كان يرجو لقاء الله ) من كان يخاف الله وهو أيضا ضعيف ، فإن المشهور في الرجاء هو توقع الخير لا غير ، ولأنا أجمعنا على أن الرجاء ورد بهذا المعنى يقال أرجو فضل الله ولا يفهم منه أخاف فضل الله ، وإذا كان واردا لهذا لا يكون لغيره دفعا للاشتراك .
المسألة الرابعة : يمكن أن يكون
المراد بأجل الله الموت ، ويمكن أن يكون هو الحياة الثانية بالحشر ، فإن كان هو الموت ، فهذا ينبئ عن بقاء النفوس بعد الموت كما ورد في الأخبار ؛ وذلك لأن القائل إذا قال : من كان يرجو الخير فإن السلطان واصل يفهم منه أن متصلا بوصول السلطان يكون هو الخير حتى أنه لو وصل هو وتأخر الخير يصح أن يقال للقائل : أما قلت ما قلت ووصل السلطان ولم يظهر الخير ، فلو لم يحصل اللقاء عند الموت لما حسن ذلك كما ذكرنا في المثال ، وإذا تبين هذا فلولا البقاء لما حصل اللقاء .
المسألة الخامسة : قوله : (
من كان يرجو ) شرط وجزاؤه (
فإن أجل الله لآت ) والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فمن لا يرجو لقاء الله لا يكون أجل الله آتيا له ، وهذا باطل فما الجواب عنه ؟ نقول : المراد من ذكر إتيان الأجل وعد المطيع بما بعده من الثواب ، يعني
من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت بثواب الله يثاب على طاعته عنده ، ولا شك أن من لا يرجوه لا يكون أجل الله آتيا على وجه يثاب هو .
المسألة السادسة : قال : (
وهو السميع العليم ) ولم يذكر صفة غيرهما كالعزيز الحكيم وغيرهما ؛ وذلك لأنه سبق القول في قوله : (
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ) وسبق الفعل بقوله : (
وهم لا يفتنون ) وبقوله : (
فليعلمن الله الذين صدقوا ) وبقوله : (
أم حسب الذين يعملون السيئات ) ولا شك أن القول يدرك بالسمع ، والعمل منه ما لا يدرك بالبصر ومنه ما يدرك به كالقصود ، والعلم يشملهما وهو السميع يسمع ما قالوه ، وهو العليم يعلم من صدق فيما قال ممن كذب ، وأيضا عليم يعلم ما يعمل فيثيب ويعاقب وههنا لطيفة
[ ص: 29 ] وهي أن
العبد له ثلاثة أمور هي أصناف حسناته :
أحدها : عمل قلبه وهو التصديق وهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم ، وعمل لسانه وهو يسمع ، وعمل أعضائه وجوارحه وهو يرى ، فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله لمسموعه ما لا أذن سمعت ، ولمرئيه ما لا عين رأت ، ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب أحد ، كما وصف في الخبر في وصف الجنة .