(
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير )
ثم قال تعالى : (
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ) .
الآية المتقدمة كانت إشارة إلى العلم الحدسي وهو الحاصل من غير طلب فقال (
أولم يروا ) على سبيل الاستفهام بمعنى استبعاد عدمه ، وقال في هذه الآية إن لم يحصل لكم هذا العلم فتفكروا في أقطار الأرض لتعلموا بالعلم الفكري ، وهذا لأن الإنسان له مراتب في الإدراك بعضهم يدرك شيئا من غير تعليم ، وإقامة برهان له ، وبعضهم لا يفهم إلا بإبانة وبعضهم لا يفهمه أصلا فقال : إن كنتم لستم من القبيل الأول فسيروا في الأرض ، أي :
سيروا فكركم في الأرض وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم لتعلموا بدء الخلق وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال في الآية الأولى بلفظ الرؤية وفي هذه بلفظ النظر ما الحكمة فيه ؟ نقول : العلم الحدسي أتم من العلم الفكري كما تبين ، والرؤية أتم من النظر لأن النظر يفضي إلى الرؤية ، يقال : نظرت فرأيت والمفضي إلى الشيء دون ذلك الشيء ، فقال في الأول أما حصلت لكم الرؤية فانظروا في الأرض لتحصل لكم الرؤية .
المسألة الثانية : ذكر هذه الآية بصيغة الأمر وفي الآية الأولى بصيغة الاستفهام لأن العلم الحدسي إن حصل فالأمر به تحصيل الحاصل ، وإن لم يحصل فلا يحصل إلا بالطلب لأن بالطلب يصير الحاصل فكريا فيكون الأمر به تكليف ما لا يطاق ، وأما العلم الفكري فهو مقدور فورد الأمر به .
المسألة الثالثة : أبرز اسم الله في الآية الأولى عند البدء حيث قال : (
كيف يبدئ الله ) وأضمره عند الإعادة وفي هذه الآية أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة حيث قال : (
ثم الله ينشئ ) لأن في الآية الأولى لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند إليه البدء فقال : (
كيف يبدئ الله ) ثم قال : (
ثم يعيده ) كما يقول القائل ضرب زيد عمرا ، ثم ضرب بكرا ، ولا يحتاج إلى إظهار اسم زيد اكتفاء بالأول ، وفي الآية الثانية كان ذكر البدء مسندا إلى الله فاكتفى به ولم يبرزه ، كقول القائل : أما علمت كيف خرج زيد ، اسمع مني كيف خرج ، ولا يظهر اسم زيد ، وأما إظهاره عند الإنشاء ثانيا حيث قال : (
ثم الله ينشئ ) مع أنه كان يكفي أن يقول : ثم ينشئ النشأة الآخرة ، فلحكمة بالغة وهي ما ذكرنا أن مع إقامة البرهان على إمكان الإعادة أظهر اسما ، من يفهم المسمى به بصفات كماله ونعوت جلاله يقطع بجواز الإعادة فقال الله مظهرا مبرزا ليقع في ذهن الإنسان من اسمه كمال
[ ص: 43 ] قدرته وشمول علمه ونفوذ إرادته ، ويعترف بوقوع بدئه وجواز إعادته ، فإن قيل فلم لم يقل : ثم الله يعيده لعين ما ذكرت من الحكمة والفائدة ؟ نقول لوجهين :
أحدهما : أن الله كان مظهرا مبرزا بقرب منه وهو في قوله : (
كيف يبدئ الله الخلق ) ولم يكن بينهما إلا لفظ الخلق وأما ههنا فلم يكن مذكورا عند البدء فأظهره .
وثانيهما : أن الدليل ههنا تم على
جواز الإعادة لأن الدلائل منحصرة في الآفاق وفي الأنفس ، كما قال تعالى : (
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) (فصلت : 53 ) وفي الآية الأولى أشار إلى الدليل النفسي الحاصل لهذا الإنسان من نفسه ، وفي الآية الثانية أشار إلى الدليل الحاصل من الآفاق بقوله : (
قل سيروا في الأرض ) وعندهما تم الدليلان ، فأكده بإظهار اسمه ، وأما الدليل الأول فأكده بالدليل الثاني ، فلم يقل ثم الله يعيده .
المسألة الرابعة : في الآية الأولى ذكر بلفظ المستقبل فقال : (
أولم يروا كيف يبدئ ) وههنا قال بلفظ الماضي فقال : (
فانظروا كيف بدأ ) ولم يقل كيف يبدأ ، فنقول : الدليل الأول هو الدليل النفسي الموجب للعلم الحدسي وهو في كل حال يوجب العلم ببدء الخلق ، فقال : إن كان ليس لكم علم بأن الله في كل حال يبدأ خلقا فانظروا إلى الأشياء المخلوقة ليحصل لكم علم بأن الله بدأ خلقا ، ويحصل المطلوب من هذا القدر فإنه ينشيء كما بدأ ذلك .
المسألة الخامسة : قال في هذه الآية (
إن الله على كل شيء قدير ) وقال في الآية الأولى (
إن ذلك على الله يسير ) وفيه فائدتان :
إحداهما : أن الدليل الأول هو الدليل النفسي ، وهو وإن كان موجبه العلم الحدسي التام ولكن عند انضمام دليل الآفاق إليه يحصل العلم العام ، لأنه بالنظر في نفسه علم نفسه وحاجته إلى الله ووجوده منه ، وبالنظر إلى الآفاق علم حاجة غيره إليه ووجوده منه ، فتم علمه بأن كل شيء من الله فقال عند تمام ذكر الدليلين (
إن الله على كل شيء قدير ) وقال عند الدليل الواحد (
إن ذلك ) وهو إعادته (
على الله يسير ) .
الثانية : هي أنا بينا أن العلم الأول أتم وإن كان الثاني أعم ، وكون الأمر يسيرا على الفاعل أتم من كونه مقدورا له بدليل أن القائل يقول في حق من يحمل مائة من أنه قادر عليه ولا يقول إنه سهل عليه ، فإذا سئل عن حمله عشرة أمنان يقول إن ذلك عليه يسير ، فنقول قال الله تعالى إن لم يحصل لكم العلم التام بأن هذه الأمور عند الله سهل يسير فسيروا في الأرض لتعلموا أنه مقدور ، ونفس كونه مقدورا كاف في إمكان الإعادة .