صفحة جزء
ثم قال تعالى : ( وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ) يعني لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء إما في إسعاد أو شقاء ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قدم ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق ، وفي قوله تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) [ فصلت : 53 ] قدم دلائل الآفاق ، وذلك لأن المفيد إذا أفاد فائدة يذكرها على وجه جيد يختاره ، فإن فهمه السامع المستفيد فذلك ، وإلا يذكرها على وجه أبين منه وينزل درجة فدرجة ، وأما المستفيد فإنه يفهم أولا الأبين ، ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين المذكور آخرا ، فالمذكور من المفيد آخرا مفهوم عند السامع أولا ، إذا علم هذا فنقول : ههنا الفعل كان منسوبا إلى السامع حيث قال : ( أولم يتفكروا في أنفسهم ) يعني فيما فهموه أولا ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانيا ، وأما في قوله : ( سنريهم ) الأمر منسوب إلى المفيد المسمع ، فذكر أولا : الآفاق فإن لم يفهموه فالأنفس ; لأن دلائل الأنفس [ ص: 88 ] لا ذهول للإنسان عنها ، وهذا الترتيب مراعى في قوله تعالى : ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) [ آل عمران : 191 ] أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال ، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض بدلائل الآفاق .

المسألة الثانية : وجه دلالة الخلق بالحق على الوحدانية ظاهر ، وأما وجه دلالته على الحشر فكيف هو ؟ فنقول : وقوع تخريب السماوات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه ، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع ; لأن الله قادر على إبقاء الحادث أبدا كما أنه يبقي الجنة والنار بعد إحداثهما أبدا ، والخلق دليل إمكان العدم ; لأن المخلوق لم يجب له القدم فجاز عليه العدم ، فإذا أخبر الصادق عن أمر له إمكان ، وجب على العاقل التصديق والإذعان ، ولأن العالم لما كان خلقه بالحق فينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياة أخرى باقية ; لأن هذه الحياة ليست إلا لعبا ولهوا كما بين بقوله تعالى : ( وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ) [ الأنعام : 32 ] وخلق السماوات والأرض للهو واللعب عبث ، والعبث ليس بحق ، وخلق السماوات والأرض بالحق فلا بد من حياة بعد هذه .

المسألة الثالثة : قال ههنا : ( كثيرا من الناس ) وقال من قبل : ( ولكن أكثر الناس ) وذلك ; لأنه من قبل لم يذكر دليلا على الأصلين ، وههنا قد ذكر الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل ، فبعد الدلائل لا بد من أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو ، فقال بعد إقامة الدليل ( وإن كثيرا ) وقبله ( ولكن أكثر الناس ) ثم بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه ، والدليل الذي لا يقع الذهول عنه وإن أمكن هو السماوات والأرض ; لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته ، فذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم وحكاية أشكالهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية