(
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين )
فقال تعالى : (
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )
وقال في الدليلين المتقدمين : (
ألم يروا ) [الأنعام : 6] ولم يقل : (
أولم يسيروا ) إذ لا حاجة هناك إلى السير بحضور النفس والسماء والأرض ، وقال ههنا : (
أولم يسيروا في الأرض فينظروا ) ذكرهم بحال أمثالهم ووبال أشكالهم ، ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك ; لأن من تقدم من
عاد وثمود كانوا أشد منهم قوة ولم تنفعهم قواهم وكانوا
[ ص: 89 ] أكثر مالا وعمارة ، ولم يمنع عنهم الهلاك أموالهم وحصونهم ، واعلم أن اعتماد الإنسان على ثلاثة أشياء : قوة جسمية فيه أو في أعوانه إذ بها المباشرة ، وقوة مالية إذا بها التأهب للمباشرة ، وقوة ظهرية يستند إليها عند الضعف والفتور وهي بالحصون والعمائر ، فقال تعالى : كانوا أشد منهم قوة في الجسم وأكثر منهم مالا ; لأنهم أثاروا الأرض أي حرثوها ، ومنه بقرة تثير الأرض ، وقيل منه سمي ثورا ، وأنتم لا حراثة لكم فأموالهم كانت أكثر ، وعمارتهم كانت أكثر ; لأن أبنيتهم كانت رفيعة ، وحصونهم منيعة ، وعمارة
أهل مكة كانت يسيرة ثم هؤلاء جاءتهم رسلهم بالبينات وأمروهم ونهوهم ، فلما كذبوا أهلكوا فكيف أنتم ، وقوله : (
فما كان الله ليظلمهم ) يعني لم يظلمهم بالتكليف ، فإن التكليف شريف لا يؤثر له إلا محل شريف ، ولكن هم ظلموا أنفسهم بوضعها في موضع خسيس ، وهو عبادة الأصنام واتباع إبليس ، فكأن الله بالتكليف وضعهم فيما خلقوا له وهو الربح ; لأنه تعالى قال خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم ، والوضع في [ أي ] موضع كان الخلق له ليس بظلم ، وأما هم فوضعوا أنفسهم في مواضع الخسران ولم يكونوا خلقوا إلا للربح فهم كانوا ظالمين ، وهذا الكلام منا ، وإن كان في الظاهر يشبه كلام
المعتزلة ، لكن العاقل يعلم كيف يقوله أهل السنة ، وهو أن هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته ، لكنه كان منهم ومضافا إليهم .
ثم قال تعالى : (
ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون )
كما قال : (
للذين أحسنوا الحسنى ) [ يونس : 26 ] وقوله تعالى : (
أن كذبوا ) قيل معناه بأن كذبوا أي كان عاقبتهم ذلك بسبب أنهم كذبوا ، وقيل معناه أساءوا وكذبوا ، فكذبوا يكون تفسيرا لأساءوا وفي هذه الآية لطائف .
إحداها : قال في حق الذين أحسنوا : (
للذين أحسنوا الحسنى ) وقال في حق من أساء : (
ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى ) إشارة إلى أن الجنة لهم من ابتداء الأمر فإن الحسنى اسم الجنة والسوءى اسم النار ، فإذا كانت الجنة لهم ومن الابتداء ، ومن له شيء كلما يزداد وينمو فيه فهو له ; لأن ملك الأصل يوجب ملك الثمرة ، فالجنة من حيث خلقت تربو وتنمو للمحسنين ، وأما الذين أساءوا ، فالسوءى وهي جهنم في العاقبة مصيرهم إليها .
الثانية :
ذكر الزيادة في حق المحسن ولم يذكر الزيادة في حق المسيء ; لأن جزاء سيئة سيئة مثلها .
الثالثة : لم يذكر في المحسن أن له الحسنى بأنه صدق ، وذكر في المسيء أن له السوءى بأنه كذب ; لأن الحسنى للمحسنين فضل ، والمتفضل لو لم يكن تفضله لسبب يكون أبلغ ، وأما السوءى للمسيء عدل ، والعادل إذا لم يكن تعذيبه لسبب لا يكون عدلا ، فذكر السبب في التعذيب وهو الإصرار على التكذيب ، ولم يذكر السبب في الثواب .
ثم قال تعالى : (
الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون )
لما ذكر أن عاقبتهم إلى الجحيم ، وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال يبدأ الخلق ، يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة ، فإليه ترجعون ، ثم بين ما يكون وقت الرجوع إليه فقال :
(
ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين )
في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم ، والإبلاس يأس مع حيرة ، يعني يوم تقوم الساعة يكون للمجرم يأس محير لا يأس هو إحدى الراحتين ، وهذا لأن الطمع إذا انقطع باليأس فإذا كان المرجو أمرا غير
[ ص: 90 ] ضروري يستريح الطامع من الانتظار وإن كان ضروريا بالإبقاء له بوونه ينفطر فؤاده أشد انفطار ، ومثل هذا اليأس هو الإبلاس ، ولنبين حال المجرم وإبلاسه بمثال ، وهو أن نقول : مثله مثل من يكون في بستان وحواليه الملاعب والملاهي ، ولديه ما يفتخر به ويباهي ، فيخبره صادق بمجيء عدو لا يرده راد ، ولا يصده صاد ، إذا جاءه لا يبلعه ريقا ، ولا يترك له إلى الخلاص طريقا ، فيتحتم عليه الاشتغال بسلوك طريق الخلاص ، فيقول له طفل أو مجنون إن هذه الشجرة التي أنت تحتها لها من الخواص دفع الأعادي عمن يكون تحتها ، فيقبل ذلك الغافل على استيفائه ملاذه معتمدا على الشجرة بقول ذلك الصبي فيجيئه العدو ويحيط به ، فأول ما يريه من الأهوال قلع تلك الشجرة فيبقى متحيرا آيسا مفتقرا ، فكذلك المجرم في دار الدنيا أقبل على استيفاء اللذات وأخبره النبي الصادق بأن الله يجزيه ، ويأتيه عذاب يخزيه ، فقال له الشيطان والنفس الأمارة بالسوء : إن هذه الأخشاب التي هي الأوثان دافعة عنك كل بأس ، وشافعة لك عند خمود الحواس ، فاشتغل بما هو فيه واستمر على غيه حتى إذا جاءته الطامة الكبرى ، فأول ما أرته إلقاء الأصنام في النار ، فلا يجد إلى الخلاص من طريق ، ويحق عليه عذاب الحريق ، فييأس حينئذ أي إياس ، ويبلس أشد إبلاس . وإليه الإشارة بقوله تعالى : (
ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ) يعني يكفرون بهم ذلك اليوم .